الشائعة ظاهرة اجتماعية قل أن يخلو منها مجتمع، ولذا فإن أكثر المجتمعات طهرا، وأشد الأزمنة نقاء وصفاء شهدت ظهور الشائعة وما يترتب عليها من آثار سلبية، ولا أدل على ذلك من ظهورها فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم، وقد رصد السياق القرآنى ظهور الشائعة وانتشارها واستهدافها الأنبياء والمرسلين, ونهى المسلم عن أن يكون بوقا ناقلا لها «يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها» الأحزاب/.69 كما رصد السياق القرآنى خطورة الشائعة, ووجه إنذارا شديد اللهجة للمنافقين ومرضى القلوب والمشيعين للأخبار الكاذبة إن لم يكفوا عن هذا الأذي»: لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا» الأحزاب/60-. وتعد الشائعات وترويج الأقاويل الباطلة والأكاذيب من الأمراض المدمرة التى ابتليت بها المجتمعات فى الوقت الراهن، نظرا لوجود عوامل تساعد على سرعة انتشارها مثل وسائل الإعلام الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، مما يهدد الأمن المجتمعى ويعرض أحوال الناس لخطر داهم. من جانبهم حذر علماء الدين من الانجراف وترويج ونشر الشائعات فى المجتمع، باعتبار ذلك نوعا من الفتنة والفساد فى الأرض التى نهى عنها الإسلام، مطالبين فى الوقت ذاته بضرورة إصدار تشريعات تجرم من يفعل ذلك حماية للأمن المجتمعي، ووضع عقوبات رادعة من شأنها منع كل من تسول له نفسه اقتراف مثل هذا العمل. ويقول الدكتور عبد الفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، إنه فى خضم الموجة العاتية من انحسار الأخلاق الإسلامية فى مجتمعاتنا حاليا، تبرز الشائعات وترويج الأكاذيب وذلك من أضداد خلق المسلم، فالكذب محظور فى جملته، وضده (وهو الصدق) واجب شرعا على كل مسلم أن يتصف به، ويتحراه فى كل ما يعرض له فى حياته، وقد بين العلماء صور الكذب المختلق تبعا للأحوال الداعية إليه، منها الكذب الذى لا يتعلق فيه حق لمخلوق، وهو الكذب فيما لا مضرة فيه على أحد، ولا يقصد به وجه من وجوه الخير كالإخبار عن حدوث شيء لم يحدث أصلا، وهذا القسم مُحَرَّم باتفاق العلماء، وهو الذى جاء فيه عن النبى صلى الله عليه وسلم: إنَّ المؤمنَ لا يكون كذابًا ، أى لا يكون مؤمنًا ممدوح الإيمان، وهو الذى يغلب عليه الكذب حتى يعرف به، وتتحقق توبة من يتصف بهذا الكذب بالإقلاع عنه، والاستغفار منه، ومنها الكذب الذى يتعلق به حق لمخلوق، وهو أن يكذب المرء على غيره فينسب إليه أنه فعل ما لم يفعل، أو قال ما لم يَقل مما يؤذيه، أو يغض منه، وهذا القسم أشد من سابقه؛ لأن التوبة منه لا تصح إلا إذا تحلل الكاذب من المكذوب عليه، فأحله هذا عن طيب نفس منه، أو أخذ حقه منه إن تعين له حق بهذا الكذب. حالات لا ضرر فيها وأشار الى أن الكذب الذى يقصد به وجه من وجوه الخير للمسلمين كالكذب فى الحرب؛ لتضليل أعداء الإسلام والمسلمين، إذ الحرب خدعة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الكذب مستحب، وأيضا الكذب الذى يرجو به المرء نفع نفسه ولا ضرر فيه على غيره، ككذب الرجل لامرأته فيما يعدها به؛ ليصلحها إن كانت غَضْبي، فهذا الكذب أباحته السنة، وأيضا كذب الرجل فى رفع مظلَمة عن أحد كأن يختفى عنده مظلوم ممن يريد قتلَه، أو إلحاق الضرر به ظلما، فيسأل عنه، فيقول: لا أعلم له مستقرا، وهذا النوع من الكذب واجب لما فيه من حقن الدماء، ورد الظلم عن المظلومين، وكلاهما أمر واجب، وإذا تعيَّن الكذب وسيلة إلى ذلك فإنه يكون واجبا؛ لأن للوسائل حكم غاياتها، فالحالات التى يشرع فيها الكذب حالات نادرة، قليلة الحدوث، وأما ما عداها فهو كثير نسبيا، إلا أنه لا يباح فيه الكذب بحاله. وشدد على أنه لا يوجد ما يمنع من تقرير عقوبة على اختلاق الأكاذيب التى تنال الناس فى أعراضهم أو سمعتهم, وتضر بهم ضررا بينا، وهيهات أن يوجد قانون يجرم ذلك ويعاقب عليه، فنصوص القانون المحكوم بها الآن, ليس فيها ما يجرم ذلك صراحة, ولذا انطلقت ألسنة الكثيرين بإيذاء الناس، دون نظر لما يترتب على ما يصدر عنهم، ودون وجل أو خوف من أن تنالهم عقوبة، فى ظل هذه القوانين الذى ثبت فشلها الزريع فى تحقيق الحفاظ على أمن المجتمع والأخلاق السوية لأهله. فساد فى الأرض وفى سياق متصل، يؤكد الدكتور نبيل السمالوطى أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر، أن الشائعات وترويجها من أخطر الأمراض التى تصيب المجتمع، وتعتبر فى الإسلام شكلا من أشكال الفتنة والفساد فى الأرض، وقد وصف القرآن الكريم الفتنة فى موضع بأنها أشد من القتل وموضع آخر بأنها أكبر من القتل، حيث قال تعالى «والفتنة أشد من القتل».. وقال سبحانه و«الفتنة أكبر من القتل»..، موضحا ان هناك بيئة حاضة وعوامل تساعد على انتشار الشائعات، منها انتشار الامية سواء الدينية او السياسية او الهجائية او الفكرية، كما انها تنتشر فى مراحل الأزمات ومراحل التغير الاجتماعى والسياسى والاقتصادي، والانتقال من نظام الى نظام، وفى المجتمعات التى لا توجد فيها شفافية لكشف الحقائق على مختلف القطاعات والأصعدة. وأوضح أن الشائعات تعد من الجيل الرابع من أجيال الحروب التى يخطط لها الأعداء فى الخارج وعملاؤهم فى الداخل، وذلك لأن الشائعات لها قدرة وسرعة فائقة فى تدمير مؤسسات الدولة والمجتمع، مشيرا الى انه اذا أردنا ان نواجه الشائعات علينا ان ننشر الحقائق بشكل كامل وبشفافية عالية تجاه اى موضوع يثار هنا او هناك، كما تجب توعية المواطنين بخطورة ترويج ونشر الشائعات وعدم الانجراف وراء كل كلمة تقال، من خلال وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعى المختلفة، وتجمعات المواطنين فى دور العبادة والأندية، مما يجعل لديهم تحصينا ضد هذه الشائعات التى تدمر المجتمع. وطالب بضرورة إصدار تشريعات تجرم ترويج ونشر الشائعات، ويترتب على هذا التجريم مجموعة من العقوبات الرادعة، التى من شأنها زجر وتخويف كل من تسول له نفسه اقتراف هذه الجريمة، خاصة أن مجال نشر وترويج الشائعات فى الوقت الحالى ميسر بقوة، عبر وسائل الإعلام المختلفة ووسائل مواقع التواصل الاجتماعى والإعلام الإلكتروني. حرام شرعا من جانبها أوضحت دار الإفتاء الحكم الشرعى لمروجى الشائعات، مؤكدة أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تضافرت على حرمة المشاركة فيما يعرف فى العصر الحديث ب (ترويج الشائعة) والتى تعنى نشر الأكاذيب والأقاويل غير المحققة والظنون الكاذبة من غير أن يتثبت المرء من صحتها، ومن غير رجوع إلى أولى الأمر والعلم والخبراء بالأمور قبل نشرها وإذاعتها حتى وإن تثبت من صحتها، مما يثير الفتن والقلاقل بين الناس، وقد وصف الله تعالى ما يسمى الآن بترويج الشائعات بالإرجاف، وهو ترويج الكذب والباطل بما يوقع الفزع والخوف فى المجتمع، فقال تعاليلَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا H مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» وقد نبهنا الله تعالى إلى أن كثيرا من الظنون يجب اجتنابها ابتداء وإهدارها تماما من غير تبيين ولا تعيين ولا تحقق، ولا شك أنه يدخل فيها تلك الظنون التى تثير الفتن والقلاقل وتوقع بين الناس، كما يندرج ترويج الشائعات تحت النهى عن (قيل وقال)، فأخرج البخارى ومسلم فى صحيحيهما عن المغيرة بن شعبة -رضى الله عنه- عن النبى -صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، ويدخل فى (قيل وقال): الخوض فى أخبار الناس وحكايات ما لا يعنى من أحوالهم وتصرفاتهم فضلا عن الترويج للأكاذيب والأضاليل وما يثير الفتن. وأشارت دار الإفتاء- فى فتواها- الى أن مروِّج الشائعة لو أدرك عظم الجرم الذى يفعله بسبب الآثار المدمرة للشائعة على المجتمع لما تهاون بصنيعه قط، وقد أخرج البخارى عن أبى هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لَا يُلْقِى لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِى لَهَا بَالًا يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ»، ولا شك أن ترويج الشائعات يندرج تحت تلك الكلمات التى لا يلقى لها بالا فيدخل بها صاحبها للأسف فى سخط الله تعالي، ويهوى بها فى جهنم والعياذ بالله، وقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من أن يتحدث المرء بكل ما سمع، فإن من يتحدث بكل ما سمع سيقع فى الكذب وترويج الباطل؛ لأنه يحدث بكل ما سمع دون تثبت أو تحقق. علاجها وأشارت دار الإفتاء إلى أن علاج الشائعات إنما يكون بوأدها فى مهدها قبل تفاقمها والامتناع عن إذاعتها، وحتى مع التثبت من صحة شائعة ما فإن ذلك لا يعنى المسارعة فى نشرها والإرجاف بها وإذاعتها وإفشائها، وكما نهى الشرع الحكيم عن إذاعة الشائعات والإرجاف فى الأرض نهى تعالى عن سماعها فقال تعالى ناعيا هذا الخُلُق على بعض اليهود: «وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ»، موضحة أن هناك خطوات شرعية إذا راجت شائعة ما خطيرة، منها وجوب حسن الظن بالنفس وبالغير، والتحقق ومطالبة مروجى الشائعة بأدلتهم عليها والسؤال عمن شهدها، وعدم تلقى الشائعة بالألسن وتناقلها، وعدم الخوض فيما ليس للإنسان به علم ولم يقم عليه دليل صحيح، وعدم التهاون والتساهل فى أمر الشائعة واعتبارها أمرا هينا وهى عند الله عظيمة، لما فيها من الوقوع فى أعراض الناس وإثارة الفتن والإرجاف فى الأرض.