فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى كان صديقى مسافراً من القاهرة إلى الصعيد، ولم يجد كالعادة كرسياً؛ فظل واقفاً لأكثر من ثمانى ساعات، وفى بعض وقفاته، تصادف أن الجالس على الكرسى بجواره رجل صعيدى أمى، وبجواره امرأة عجوز تلتف ببردة سوداء، وهى رداء يعادل ضعفى عباءة الرجل لا يظهر منها شيئاً، وحين طالت وقفة صديقنا بجوارهم؛ التفت إليه الصعيدى؛ وبنبرة مهذبة ولكن حادة قال له «أبو البلديِّاتة عِف عن سمانا» فقط طلب منه أن يعف نفسه عن الوجود فى سماء هذا الرجل وحرميه؛ سواء زوجته أو أخته. لغة حوار راقية جداً من رجل أمى لم يذهب إلى مدارس أو جامعات، حقق ما يريد دون أن يجرح الطرف الآخر «لقد صدق الأستاذ لويس عوض حين قال إن الصعيد هو المخزون القيمى لمصر، كلما نضبت قيمها أمدها الصعيد بمدد جديدة. لكن للأسف كان ذلك عندما كان الأستاذ لويس عوض حياً، وقبل اختراع وسائل التواصل الاجتماعى» أما الآن فقد تراجعت الأخلاق وتراجعت معها لغة الحوار بل انحطت، والانحطاط هو التدنى والسقوط للأسفل، والتراجع للوراء، والفساد. الحوار هو الوسيلة الوحيدة للتواصل بين البشر، وحين يغيب الحوار يحل محلة التواصل المادى بالأيدى أو العصى أو السلاح، أى يتحول البشر إلى وسائل المفترس والوحشى من الحيوانات، والحوار يكون بين المختلفين وليس المتفقين، إذ عند الاتفاق لا حاجة للحوار؛ وإنما يكون هناك التواصل والمسامرة، لذلك يكون الحوار بين رأيين مختلفين أو أكثر، وحجتين متناقضتين أو أكثر. وقد انشغل الفكر الإسلامى بأدب الحوار، وأدب المناظرة وأدب البحث، وأدب الاختلاف؛ وكتب كثيرون فى هذه المجالات الأربعة على مختلف العصور، ولقد لخص فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد سيد طنطاوى أدب الحوار فى الإسلام فى كتاب مفيد عنوانه «أدب الحوار فى الإسلام» 1997م، كذلك كتب كثيرون فى أدب البحث والمناظرة أشهرهم عضد الدين الإيجى، توفى 1355م وطاشكبرى زاده، توفى 1561م وآخرون، وقد لخص هذا التراث الشيخ حسين والى فى كتابه «الموجز فى آداب البحث والمناظرة» 1908م، وكذلك فعل الدكتور طه جابر العلوانى فى كتابه «أدب الاختلاف فى الإسلام» 1992م. ومن أهم أسس الإسلام أن أخلاقه وقيمه ومبادئه الإنسانية لها صفة الإطلاق والعموم، ولا يمكن تخصيصها أو إخضاعها للنسبية، فهذه الآداب جميعها يجب الالتزام بها مع المسلم وغير المسلم، مع من يتفق معك ومع من يختلف جذريا معك، بل أحيانا يكون الالتزام بها أولى مع المخالفين فى العقيدة أو الدين أو الاختيار الفقهى المذهبى أو الأعداء :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المائدة آية(8). غير أن تقلب الزمان وظهور جماعات تشق الأمة، وتفتتها شيعاً وأحزابا من خوارج الفتنة الكبرى فى زمن الصحابة، إلى خوارج الفتنة الصغرى فى زماننا، فقد انقلب الحال، وحدث انقلاب على الإسلام ذاته، إذ تم تأميمه لصالح الجماعة؛ أيا كان مسمى الجماعة، وتم تخصيصه، أى تحويله إلى ملكية خاصة لقادة هذه الجماعة؛ الذين يأتون فى الغالب من خلفيات بعيدة عن علوم الدين، وعن فهم تراث المسلمين، وكثير منهم لم ينفق فى تحصيل العلم نصف ما أنفقه فى حشد الجماهير خلفه لتأسيس زعامة خاصة به ونافعة لجماعته. مع جماعات الفتنة الصغرى خصوصا الجماعة الأم؛ التى تحمل المسئولية التاريخية عن ظهور كل الجماعات الأشد عنفا والأقل فهما، لأنها إما خرجت من رحمها، أو تمردت عليها، أو تربت على فكرها، أو تمت رعايتها وتشجيعها للاستفادة منها؛ من خلال إظهار الجماعة الأم أنها الأكثر سلمية ًوالأكثر اعتدالاً؛ لذلك هى فى حاجة دائما للمتطرفين حولها حتى يظهر اعتدالها، هنا نجد أن هذه الجماعات لها موقف آخر من كل تراث الإسلام فى آداب الخلاف والاختلاف والحوار والمناظرة، إذ تجعل كل تلك الآداب مطبقة فقط بين أعضاء الجماعة وأطرافها، وهنا نجد مفتى جماعة الإخوان الدكتور عبدالرحمن البر يكتب فى الموضوع نصاً مناقضاً لكل تاريخ الإسلام عنوانه «أدب الاختلاف بين العاملين للإسلام» تخصيص لم يسبقه فيه أحد، يعبر عن رؤية جماعة الفتنة الصغرى لكل تراث الإسلام؛ على أساس أنه ملك للجماعة، وكل من هو خارجها لا أدب معه، ولا حرمة له. هنا بدأ انحطاط لغة الحوار على أيدى من يتصدرون للدعوة؛ مثل الداعية الشهير الذى أصبح مصدرا لقاموس من البذاءات والانحطاط الأخلاقى لا ينافسه فيه أحد، وقد سبقه العلامة الكبير والمرجع الأعلى لجماعات الفتنة الصغرى فقد خرج من لسان فضيلته ما يستحى المرء أن يردده أو يعيده، وبعد عزل الرئيس الدكتور محمد مرسى انفجر قاموس البذاءات على ألسنة أعضاء الجماعة كبيرها وصغيرها، حتى صار السلاح الوحيد للمعارضة عندهم هو السب واللعن والشتم والتنابذ بالألقاب ، والطعن فى الأعراض، ورمى المحصنات الغافلات، ونشر الفاحشة بين الناس للانتقام من الخصوم مثلما حدث فى موضوع جريمة مدرب الكاراتيه بالمحلة..الخ، وصار التفتيش فى الضمائر، والطعن فى النوايا، والتجرؤ على كبار السن من العلماء والشيوخ من قبل الصغار الأغرار جهاداً فى سبيل الله ونصرة لدعوة الإخوان. والأثر التربوى والثقافى على الأمة فى حالة الإخوان وجماعات الفتنة الصغرى خطير، لأن هؤلاء ينظر إليهم الناس على أنهم أهل دين وتقوى وأنهم قدوة ومثلٌ أعلى، ولكن للأسف أظهرت فتنة السياسة، وخسارتهم الحكم أنهم ليسوا كذلك، بل على العكس تماما مما كان يظن الناس. أما بعض نجوم الفضائيات العربية خصوصا الجزيرة، والفضائيات المصرية وللأسف فقد صاروا رواداً فى إبداع وابتكار ونشر لغة الحوار المنحط على مدار الساعة، ويكفى المرء أن يتابع كم السباب والشتائم التى نالها الشعب المصرى لعدم طاعته لأسياده من مقدمى البرامج متوسطى التعليم قليلى الثقافة، فقد تم لعن وسب الشعب كل الشعب بكل ألوان السباب والشتائم التى بلغت قاع الانحطاط فى لغة الحوار. القوانين فى جميع الدول العربية يجرِّم كل قول أو إشارة تنال من كرامة الإنسان؛ سواء أكان على شبكة الإنترنت أو فى وسائل الإعلامة فلماذا لا يتم تفعيل هذه القوانين وعقاب وردع كل من يساهم فى مزيد من الانحطاط فى لغة الحوار؟ لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف