لا شك أن سوريا نجحت في العودة إلي المشهد الاقليمي بشكل جديد, بعد أن استطاعت التعامل مع جميع الضغوط الدولية التي شنت عليها منذ اغتيال رفيق الحريري في فبراير2005. ففي بداية الأزمة أدي الاصرار السوري علي التمديد للرئيس إميل لحود بعد انتهاء ولايته الدستورية2004 إلي تحفيز معارضي سوريا التقليديين في لبنان, بل أنه قد أدي بها إلي أن تخسر حليفيها الرئيسيين وهما وليد جنبلاط وتيار الحريري, اللذان انضما إلي المعارضة, الأمر الذي جعل المراقبين يشيرون إلي افتقاد القيادة السورية المبادرة, وعدم تحسبها للتصعيد الهائل الذي بدأ يتواتر من جهات عدة, الأمر الذي ألجأ دمشق الي انتهاج سياسة الدفاع ودبلوماسية ردود الأفعال. غير أنه وبعد خمس سنوات من عمر الأزمة, يبدو أن سوريا عادت الي ممارسة نفوذها من جديد في لبنان, معتمدة علي محورية دورها الاقليمي القائم بالأساس علي استغلال تناقضات المنطقة.** ويمكن إجمال شواهد نجاح سوريا في تخطي الأزمة, في العديد من الظواهر والتحركات ومن أهمها عودة العلاقات السورية الأوروبية إلي الازدهار خاصة مع فرنسا التي رعت مشهد رفع العزلة الدولية عن سوريا خلال قمة تدشين الاتحاد من أجل المتوسط بباريس في يوليو2008. وهكذا مثلت القمة السورية اللبنانية المعقدة علي هامش التدشين ثم زيارة الرئيس اللبناني إلي دمشق في أكتوبر2008 انطلاقة جديدة للعلاقات السورية اللبنانية, وقد تكلل ذلك فيما بعد بافتتاح السفارات وتبادل التمثيل الدبلوماسي. وقد تكامل مع هذه العلاقات الرسمية, توافد الزعماء اللبنانيين إلي دمشق سواء كانوا من حلفائها التقليديين أو من الحلفاء الجدد كالعماد ميشال عون صاحب العداء التاريخي للوجود السوري في لبنان, مما أعطي لاستئناف العلاقات مصداقية كبيرة آنذاك. من جهة ثانية عادت العلاقات السورية السعودية إلي التفاهم بعد سنوات من القطيعة عقب اغتيال رفيق الحريري رجل السعودية القوي في لبنان, والاتهام المتكرر لسوريا بالوقوف وراء هذا الاغتيال. وتكلل هذا التفاهم بزيارتين متتاليتين لجدة ودمشق لكل من الرئيس السوري والملك السعودي علي التوالي في شهري سبتمبر وأكتوبر2009. وقد ترتب عليه قيام سعد الحريري بتخطي الخصومة الشخصية مع سوريا وزيارة دمشق في ديسمبر2009 كرئيس وزراء لبلاده الامر الذي عزز من مشهد الاستئناف الفعلي للعلاقات بين البلدين علي أساس من المصالح المتبادلة. ثم مثلت عودة السفير الأمريكي لدمشق بعد خمس سنوات من سحبه غداة اغتيال الحريري دليلا قويا علي تطور جاد في جوهر السياسة الأمريكية تجاه سوريا في فبراير2010. وفي الوقت الحالي تأتي زيارة وليد جنبلاط إلي دمشق في نهاية مارس2010 بعد سبعة أشهر من إعادة وضعه مستقلا عن فريق14 آذار متجها تدريجيا للتحالف مع8 آذار ومبديا أسفه عن التجاوزات التي بدرت منه في حق القيادة السورية في أثناء احتدام العداء معها. في ضوء هذه الشواهد المؤكدة لخروج سوريا من أزمتها بل شروعها في تسجيل نقاط إقليمية لمصلحتها, يثور التساؤل حول مسببات هذا النجاح وكيفية تحقيقه. ونذكر هنا أنها لم تكن المرة الأولي التي واجهت سوريا فيها كما من الضغوط الدولية والاقليمية بشأن طموحها للهيمنة علي لبنان. فقد سبق أن عرفت في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية هزيمة أشد لنفوذها تمثلت في الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام1982 وعقد اتفاقية سلام إسرائيلية لبنانية عرفت تاريخيا باتفاق17 أيار1983 والذي سرعان ما سقط تحت وطأة الضغط الشعبي اللبناني وضربات المقاومة التي قادتها سوريا ونسقت بين أطرافها اللبنانيين. وفي غضون سنوات قليلة استطاعت سوريا أن تمكن لحلفائها في لبنان وأن تقصي خصومها بالقوة العسكرية تارة وبالتضييق السياسي تارة أخري, حتي استطاعت أن تطوي الحرب الأهلية باتفاق الطائف الذي عزز من نفوذها في لبنان بل قننه بمباركة إقليمية ودولية ورضاء لبناني. ومن الواضح أن سوريا تسعي دائما لاستغلال تناقضات المشهد الاقليمي في محاولات مستمرة لاعادة تركيبه لمصلحتها دون بذل جهد استثنائي بهذا الخصوص, بل أن خصومها قد ساعدوها في ذلك عندما تبنوا طرحا أقرب الي اللامعقولية. فذهاب قوي14 آذار إلي تبني القطيعة مع سوريا لم يكن واقعيا بالمرة في ظل الوضع الاقليمي المنظور والتداخل الوثيق بين المصالح السورية واللبنانية ليس فقط علي المستوي السياسي والجيوستراتيجي, بل الاقتصادي أيضا. ومثلما شكل التوافق الأمريكي الفرنسي في2004 سوارا محكما لخنق النفوذ السوري في لبنان, كانت فرنسا هي الباب الخلفي الذي استطاعت أن تنفذ منه سوريا إلي لبنان مجددا, ولكن هذه المرة بتبني خطاب أكثر عقلانية وأقل خيلاء, فبانتهاء ولاية الرئيس شيراك الصديق الشخصي للحريري عادت الدبلوماسية الفرنسية إلي لعب دور موضوعي فعال لا يرتكن إلي أساس شخصي كذي قبل, وتزامن مع ذلك طموح ساركوزي إلي نشاط دبلوماسي علي أكثر من صعيد في محاولة لتسجيل سبق مبكر لرئاسة بلاده للاتحاد الأوروبي, ورغم أن الهدف كان استمالة سوريا في محيط المجتمع الدولي لفك تحالفها مع إيران, فقد استجابت سوريا للوصفة الفرنسية وتبادلت التمثيل الدبلوماسي مع لبنان وشجعت حلفاءها اللبنانيين علي عدم تعطيل عمل حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت في عقب اتفاق الدوحة لإجراء الانتخابات البرلمانية في يونيو2009. تزامن مع ذلك تراجع مشروع المحافظين الجدد في المنطقة بنهاية عهد بوش وعدم رغبة الإدارة المنتهية ولايتها بالانشغال بملفات أخري في المنطقة سوي الملفين العراقي والأفغاني, وهو ما بدا جليا خلال أحداث7 مايو2008 وما تلاها, حيث فقدت قوي14 آذار حليفا قويا دفعها بدعمه السابق إلي تصعيد خطاب العداء لسوريا ثم تركها وحيدة في الميدان وانصرف إلي مشاغل أخري أكثر إلحاحا بالنسبة للمصلحة الأمريكية, ومع هذا التراجع للملف اللبناني إلي ذيل أولويات الإدارة الأمريكية السابقة, وحتي الحالية, عادت مسألة العلاقات السورية اللبنانية إلي حجمها الإقليمي الطبيعي الذي صادف أن شهد انفراجا علي وقع التقارب السوري السعودي, فلم تتردد القيادة السورية في إرسال الإشارات الإيجابية إلي السعودية, خاصة منذ القمة الاقتصادية بالكويت في يناير2009. فأحسنت السعودية استقبال هذه الإشارات لفتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية مستهدفة بذلك قطع الطريق علي ظهور أطراف وسيطة كقطر التي سبق وحازت مشهد الريادة مناصفة مع فرنسا خلال قمة تدشين الاتحاد من أجل المتوسط واتفاق الدوحة. من جهة ثانية تسببت الأزمة في مراجعة السياسة السورية تجاه لبنان, ووفرت المناخ المناسب لتنفيذها دون أن تفقد سوريا ماء وجهها, فقد مثل الانسحاب العسكري السوري فرصة للقيادة السورية لإعادة هيكلة مصالحها في لبنان علي أساس سياسي دبلوماسي مع تراجع ملحوظ للمكون العسكري والاستخباراتي. من جهة ثالثة طورت سوريا أسلوبا جديدا للاقتراب من الشأن اللبناني, فتخلت عن التدخل الوثيق في التفاصيل وأعطت حرية أكبر للبنانيين في التحرك داخليا, في الوقت الذي وسعت فيه من قاعدة حلفائها, فضمت ميشال عون ووليد جنبلاط, وقد تضم فيما بعد أمين الجميل في سياسة انفتاحية براجماتية تتغاضي عن الخصومة السابقة, وتنبذ النزعة الثأرية. ورغم ذلك فإن هذا النجاح لا يسلم من بعض التحديات المطروحة, فمن ناحية يصعب علي سوريا أن تقاوم لفترة طويلة إغراء الانزلاق في التدخل الوثيق بالشأن اللبناني خاصة مع تنامي قوة حلفائها مما قد يفقدها بعضا من المصداقية التي اكتسبتها بالأشهر القليلة الماضية, من ناحية أخري تبقي المحكمة الدولية ملفا معلقا برسم الإعلان عن لائحة الاتهام النهائية, والتي ستحدد إذا ما كانت المحكمة الدولية ستشكل ضربة للعلاقات السورية اللبنانية أم توثيقا مستقبليا لها.