احتفالنا اليوم بالذكرى الثانية والأربعين لانتصار أكتوبر المجيد لا يبعد كثيراً عن التطلع المتجدد لإحياء مشروع الزعيم جمال عبد الناصر أى المشروع القومى الوحدوى التحررى الذى يرى أن العرب يشكلون أمة واحدة جرى تجزئتها وتفتيتها عنوة خدمة لمصالح الدول الاستعمارية التى قامت برسم الحدود الجديدة للوطن العربى وخدمة لوجود وبقاء وتقدم الكيان الصهيونى الذى جرى غرسه عنوة فى قلب العرب فى فلسطين، كما يرى أن توحيد العرب مرة أخرى فى الاتجاه المعاكس لمخطط التقسيم والتجزئة لن يستعيد للعرب هويتهم الواحدة فقط بل سيؤمن أيضاً مستقبل بقاءهم كياناً قادراً على الإنتاج الحضارى والتقدم الإنساني. وإذا كان انتصار أكتوبر قد اعتبر خطوة أساسية وجذرية لإعادة تصحيح الانكسار الذى لحق بالمشروع الناصرى الذى جرت إعاقته بعدوان يونيو 1967 الغادر بقرار أمريكي- إسرائيلى منذ منتصف عام 1966 بعد أن تأكد الرئيس الأمريكى الأسبق ليندون جونسون أن الدولة القوية والمشروع النهضوى الذى يسعى جمال عبد الناصر لإقامته فى مصر ليكون بؤرة الاستقطاب لتجديد مشروع النهوض العربى بكل ما يمثله هذا المشروع من تحدٍ صارخ للمصالح الأمريكية والإسرائيلية فى الشرق الأوسط، فإن هذا الانتصار المجيد جرى احتواؤه سريعاً كى لا يؤتى ثماره المرجوة، أى كى لا يعيد تجديد وإحياء المشروع المصرى النهضوى الذى أسسه جمال عبد الناصر ويستعيد هذا المشروع فى الوعى الوطنى والقومي. كان الهدف من عدوان يونيو 1967 المدبر أمريكياً وإسرائيلياً هو كسر المشروع الناصرى وتقزيم الدور المصرى وانكفائه داخلياً، واستلاب الأمل القومى العربى فى النهوض والتقدم لأن هذا النهوض والتقدم فى مصر أكبر خطر على المصالح الأمريكية وعلى وجود الكيان الصهيوني. وكان المعنى الأهم لانتصار أكتوبر هو أن المشروع المصرى لم ينهزم بعد، وأنه قادر على العودة وتجديد نفسه. فالجيش المصرى الذى انتصر فى حرب أكتوبر 1973 هو نفسه الجيش الذى دبروا لاغتياله فى عدوان يونيو 1967، والشعب المصرى الذى انتصر فى حرب 1973 هو الشعب الذى أرادوا إذلاله بنكسة 1967، ومن هنا كان التدبير لسرقة النصر عسكرياً أولاً بالثغرة الإسرائيلية اللعينة فى الدفرسوار التى لعب الأمريكيون الدور الأساسى فى تدبيرها استعانة بأقمارهم الصناعية، وسياسياً ثانياً بفرض التفاوض كمسار لحل الصراع دون شروط مصرية سبق لمصر تأكيدها وهى شروط كانت نابعة من مقررات القمة العربية فى الخرطوم عقب نكسة 1967 وتقول: لا تفاوض ولا صلح ولا اعتراف بإسرائيل قبل الانسحاب الإسرائيلى الكامل من الأراضى التى احتلت بعدوان يونيو 1967. فقد فرض على مصر أن تتفاوض وأن تتصالح وأن تعترف بإسرائيل وتخضع لشروطها بعد ستة أعوام فقط من انتصار أكتوبر المجيد وفق ما جرى التوقيع عليه فى معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979. وهكذا جرى الانحراف بالهدف، فبدلاً من أن يكون انتصار أكتوبر 1973 رافعة جديدة لمشروع النهوض المصرى والعربى الذى أسسه جمال عبد الناصر تحول النصر إلى طريق لإلحاق الهزيمة الكبرى بهذا المشروع، وهى الهزيمة التى لم يستطيعوا تحقيقها عسكرياً بعدوان يونيو 1967. الآن لم يعد الكيان الصهيونى هو العدو الأوحد الذى يستهدف تفكيك وحدة العرب بل ظهر العدو الإرهابى ممثلاً فى تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) الذى يسعى هو الآخر لوأد حلم الوحدة العربية وإقامة ما يدعيه ب «دولة الخلافة الإسلامية». فالحرب التى يخوضها إرهاب «داعش» التكفيرى وإرهاب «القاعدة» وكل فصائل ما يسمى ب «الإسلام الجهادي» أو السلفية الجهادية فى العراق وفى سوريا وفى ليبيا هدفها الأساسى هو إسقاط الدولة وإقامة ولايات تابعة للخلافة الإسلامية وما يحدث الآن من حرب ضد الجيش المصرى لاستنزافه هدفه إسقاط مصر للقضاء نهائياً على حلم تجديد المشروع العربى وفرض المشروعات الأخرى البديلة سواء كانت المشاريع الأمريكية والإسرائيلية للشرق الأوسط أو مشروع «داعش» للخلافة الإسلامية، وكلها مشاريع تستهدف إعادة تقسيم وتجزئة الدول العربية وفرض خرائط سياسية جديدة للوطن العربي. تمزيق الوطن العربى كله هو الهدف القديم المتجدد وتمزيق الهوية العربية هو أيضاً الهدف القديم المتجدد وعندما يتوحد الهدف بين أكثر من طرف فالنتيجة الحتمية هى أن هذه الأطراف موحدة الهدف هى بالضرورة أطراف مترابطة المقاصد، ومن ثم فإن العدو الصهيونى المدعوم أمريكياً ليس غريباً أو بعيداً عن العدو الإرهابى المدعوم إسرائيلياً وأمريكياً أيضاً، ومن ثم فإن المواجهة يجب أن تكون واحدة وأن تستهدف الضرب فى عمق أهداف ومخططات مشروعات كل هؤلاء الأعداء مجتمعين، ولم يكن غريباً أن جمال عبد الناصر خاض الصراع مبكراً ضد هذين المشروعين: المشروع الصهيوني- الغربي، والمشروع الآخر المتخفى وراء الستارة الإسلامية أو ما عُرف ب «الإسلام السياسي»، وهما معاً أى هذان المشروعان من خاضا الصراع ضد مشروع النهضة العربية الذى تزعمه جمال عبد الناصر. فالذين أسسوا ما أسموه ب «الحلف الإسلامي» فى الستينيات من القرن الماضى لضرب الدعوة الوحدوية العربية هم من تزعموا الدعوة إلى تكفير الفكرة القومية العربية واختلقوا الصراع بين العروبة والإسلام وهم من تحالفوا مع المشروع الأمريكى الذى يرتكز على قواعد المشروع الصهيوني، ومن ثم فالعدو واحد والصراع واحد منذ أن كشف المفكر العروبى اللبنانى نجيب عازورى فى 1905 (كتابه: يقظة العرب) حقيقة هذا الصراع الممتد منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بقوله: «هناك حادثان مهمان من طبيعة واحدة، ولكنهما متعارضان، وهما يقظة الأمة العربية والجهد اليهودى الخفى لإنشاء إسرائيل القديمة من جديد، وعلى مقياس أوسع: أن مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر إلى أن تغلب إحداهما الأخرى». هكذا، الصراع المستمر، والصراع هو مزيج من الحروب والمقاومة والمواجهة، وامتلاك القدرات بين هذين المشروعين إلى أن يتغلب أحدهما على الآخر، بدافع من خصوصية هذا الصراع، باعتباره ليس مجرد خلاف فى الرأي، أو حتى فى المصالح، بقدر ما هو صراع حول الوجود ذاته. من عمق هذا الوعى بحقيقة هذا الصراع انطلق مشروع جمال عبد الناصر بتأكيد وحدة الأمة العربية، وبسبب هذا الوعى كان قرار هزيمته وإسقاطه قراراً بدافع الحرص على حماية وجود وبقاء المشروع الآخر، وعندما جاء نصر حرب أكتوبر ليصحح المسار جرى احتواؤه والانحراف به فى الاتجاه المعاكس الذى يخدم وجود المشروع العدو، والآن وبعد ثورتين مصريتين، وبعد شوق شعبى متجدد وغير مسبوق لشخص جمال عبد الناصر ومشروعه فى ذكرى رحيله وفى غمرة احتفالاتنا بنصر أكتوبر المجيد هل هناك أمل، بل هل هناك حوافز ودوافع كافية لاستعادة المشروع؟ استعادة المشروع التى نعنيها ليس تكرار ما حدث بحذافيره بانتصاراته وانكساراته كما قد يتصور البعض ولكن الاستعادة التى نعنيها أن تعود الأمة العربية للوعى مجدداً أن بقاءها مرهون بوحدة أقطارها وامتلاكها مشروعاً للنهوض الحضارى المتجدد القادر على صنع المستقبل الذى يحقق لها ما استهدفه مشروع جمال عبد الناصر من حرية وعزة وكرامة. والإجابة نعم، إذا كان هناك وعى وإدراك كافيان بأن ما نواجهه من تحديات ومخاطر هى تحديات ومخاطر تستهدف الوجود العربى كله، هى تحديات وبكل المعاني.. صراع وجود. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس