التاريخ يعيد نفسه من جديد داخل أروقة الأممالمتحدة، «الحرب الباردة» تفرض نفسها، وإن كان فى شكل «حرب كلامية» باردة. روسيا تضع الولاياتالمتحدة فى القفص وتكيل لها الاتهامات وتحملها مسئولية فشل سياسات «القطب الأوحد» وانعكاسات ذلك على العالم، وهو ما جعل الرئيس الأمريكى باراك أوباما يبدو وكأنه يقف وحيدا لا يستطيع الدفاع عن نفسه فى مواجهة هجوم نظيره الروسى فلاديمير بوتين. هدم دول وتحويلها إلى فاشلة، تصدير الديمقراطية بالقوة، وفرض أنظمة حكم، واستخدام القوة العسكرية بدون تفويض من الأممالمتحدة، وظهور داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية.. قائمة طويلة من الاتهامات التى كالها بوتين لنظيره الأمريكي. بوتين ذهب إلى الأممالمتحدة، لأول مرة منذ 10 سنوات، يمتلك مبادرة لحل الصراع السورى تعتمد على تحالف دولى ودعم الرئيس السورى بشار الأسد فى حين لا يمتلك أوباما «استراتيجية خروج» باعترافه. وعلى الرغم من الاجتماع الذى استمر بين الرئيسين أكثر من 90 دقيقة، والذى يعتبر الأول منذ عامين، والذى وصفته موسكو بالبناء، فإن بوتين شن أعنف هجوم على سياسات الولاياتالمتحدة، والتى اعتبر أنها تراوح مكانها منذ الحرب الباردة. الحصانة من المحاسبة وخلال وقوفه على منصة الجمعية العامة، وجه بوتين اتهامات صريحة إلى الولاياتالمتحدة فى التسبب فيما يحدث فى العالم من كوارث سياسية واجتماعية، وذلك بسبب السياسات القائمة على الثقة فى النفس والاعتقاد بالاستثنائية والحصانة من المحاسبة. وقال : «مركز الهيمنة الوحيد الذى ظهر بعد الحرب الباردة انتهي، إن الذين يظنون أنفسهم على قمة الهرم يميلون إلى الاعتقاد أنهم إذا كانوا أقوياء واستثنائيين، فإنهم يعرفون ما هو أفضل للآخرين»، فى إشارة إلى أن الولاياتالمتحدة ليست القطب الوحيد فى العالم مثلما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، موضحا أنه «يجب أن نتذكر دروس الماضى ممثلا فى أجزاء من تاريخ الكتلة السوفييتية السابقة». تصدير الثورات الرئيس الروسى أكد أن «البعض لا يتعلم من أخطاء الآخرين، بل يواصل تكرارها، وأن تصدير ما يسمى بالثورات الديمقراطية يتواصل». وذكر بوتين بالجرائم الأمريكية فى المنطقة بداية من تحويل مجموعة من الدول فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى فاشلة، وفى مقدمتها سوريا وليبيا، وتركها فى حالة عارمة من الفوضي، وانتهاء بمحاولات تصدير الديمقراطية وفرض نظم للحكم بالقوة. ودلل بوتين على هذه الاتهامات بالقول إن ثورات الشرق الأوسط، حيث كان يرغب الناس فى التغيير لكن بدلا من الإصلاحات وانتصار الديمقراطية والتقدم، ولدت العنف والفقر والكوارث الاجتماعية وتدهورت حقوق الإنسان بما فيها الحق فى الحياة. سوريا ووقف الرئيسان الأمريكى والروسى على طرفى النقيض فيما يخص حل الأزمة السورية حيث دعا بوتين إلى تشكيل تحالف عالمى لإنقاذ سوريا، موضحا أنه «سيكون خطأ هائلا رفض التعاون مع الحكومة السورية وقواتها المسلحة التى تقاتل الإرهاب وجها لوجه» بينما رد أوباما بأن بلاده على استعداد لتجرع «الدواء المر» بالتعامل مع روسيا وإيران، محذرا من دعم الرئيس الأسد، ومؤكدا أنه لا عودة للوضع القائم قبل الحرب الأهلية. ليبيا وردا على انتقادات بوتين حول ليبيا، واتهامه واشنطن بالتسبب فى الوضع الذى آلت إليه، قدم أوباما، من جانبه، اعترافا نادرا بالفشل فى تحقيق انتقال سلمى فى ليبيا، وقال «حتى ونحن نساعد الشعب الليبى على إنهاء حكم طاغية كان بوسع تحالفنا، وكان لزاما عليه، فعل المزيد لملء الفراغ الذى تركه». وجدير بالذكر هنا أن الرئيس الأمريكى أقر فى كلمته أمام الجمعية العامة بأن بلاده ارتكبت «أخطاء» فى ليبيا. تجاوزات أمريكية وحاول الرئيس الأمريكى أيضا الرد على اتهام بوتين بالتجاوزات الأمريكية لدور الأممالمتحدة، حيث حذر من أنه بعد 70 عاما من ميثاق الأممالمتحدة، يجادل البعض بأن المنظمة لم تعد صالحة، وأن الدول ينبغى عليها العودة إلى الأساليب القديمة فى التعامل مع بعضها البعض. وفى نهاية المبارزة الكلامية، شدد أوباما على أن الولاياتالمتحدة لا «ترغب فى العودة إلى الحرب الباردة»، ولكن بدلا من ذلك تريد أن تقوم روسيا بحل الأزمة دبلوماسيا»، بينما دعا بوتين إلى التعلم من دروس التاريخ وعدم تكرار الأخطاء. فتور وختاما، وعلى الرغم من تبادل الأنخاب بين الغريمين اللدودين بوتين وأوباما خلال لقائهما، فإن هذه اللقطة لم تخف الابتسامة الفاترة التى بدت على وجهيهما قبل بدء المعركة الكلامية بينهما على منصة الجمعية العامة، وهو ما يؤكد أن البلدين دخلا فى أجواء حرب باردة حقيقية، وأن هذه الحرب تأتى عبر بوابة الأزمة السورية، فضلا عن ملفات أخري، ومن بينهم قضية أوكرانيا، التى استغلها الرئيس الأمريكى أيضا لاستباق الهجوم على السياسات الروسية، إلا أنه لم ينجح فى مسعاه، فظهر بوتين فى الكلمة التالية له أكثر شراسة ومنطقية، وعبرت كلماته عن حقائق الأمور.