تقوم كُلُّ التكاليف الواردة في الشريعة الإسلاميَّة على مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد، وبهذا جزم الشاطبي بعد أن استقرأ موارد الشريعة فوجد أن مقصود الشارع من التكاليف ينحصر في هذه الغاية، التي عبر عنها بقوله: «جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوبللشارع مقصود» (الموافقات 3/ 58) وإذا كان ما قرَّره الإمام الشاطبي هو الأساس في الشريعة، إلا أننا نجد أنه في تفاصيل بعض الجزئيات في التكاليف الشرعيَّة عجز العقل عن إدراك حقيقتها، بحيث إن الإنسان يعجز في الجواب عن: لماذا شرع هذا التكليف على تلك الهيئة التي أُمِرْنا بأدائه عليها؟ وقد يأتي سؤال آخر في بعض هذه التكاليف عن: لماذا جاء بهذا العدد دون غيره؟! ولا نجد جوابًا لذلك إلا بأن نتعبد الله سبحانه وتعالى بما أمر وعلى الهيئة التي جاء بها وبالعدد المأمور به تسليمًا وخضوعًا لربِّ العالمين، ما دام النص قد ورد في ذلك صحيحًا صريحًا. وهذا ما يسمى عند العلماء ب «الأحكام التعبدية»؛ أي: التي نتعبد الله عز وجل بها وبكيفيتها التي وردت في النص الشريف، حتى وإن لم ندرك كنه هذه الكيفيات، مع جزمنا بأن هذه الأحكام ما جاءت إلا لجلب مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: وَعَسَىأَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُيَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]. ويُعَدُّ الحج من العبادات التي يغلب عليها هذا المعنى التعبدي، ويسري في مناسكه كلها، كمثل الطواف حول الكعبة، حيث ترد الأسئلة عن تحديده بسبعة أشواط، دون زيادة أو نقصان، وكذلك عن كيفيته، حيث تكون الكعبة عن يسار الطائف، والبداية من الحجر الأسود. كل ذلك والعبد مُسلِّم لخالقه فيما أمر؛ بل إنه حين يفعل هذه المناسك تمتزج بروحه ووجدانه، ويتعلق قلبه بها، حتى إنه إذا ما كانت لحظة الفراق لهذه الأماكن المباركة ظل القلب متعلقًا بها حتى وإن فارقها الجسد، سنة كونية من الله عز وجل اختص بها هذا البيت الحرام، مصداقًا لقوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة: 125]، ومعنى «مثابة»، أي: كلما فارقه زائره يثوب ويتشوف للرجوع إليه. وهذا المعنى ليس قاصرًا فقط على الطواف؛ بل هو سارٍ في أعمال الحج كلها. ومما يؤيد هذا المعنى ويؤكده أن المقصود من أعمال الحج في حقيقتها أن يُذكر اللهُ سبحانه وتعالى كثيرًا، كما ورد في قولِه تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 203]، وقوله عز وجل: فَإِذَاأَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْوَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ @ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُوَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ @ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوااللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 198- 200]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورميالجمار لإقامة ذكر الله»(سنن أبي داود/ 1888). وكلما أيقن الإنسان وفاضت مشاعره في الأماكن المباركة، وأحس بها وخالجت دقات قلبه كلما رقت له هذه الأماكن وشهدت له عند ربها، بكل دمعة ذرفها عندها، وبكل عبادة قام بها، ولعل هذا ما جعل سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه يقول لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال عن «الحجر الأسود»: «إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولاتنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ماقبلتك»(متفقٌ عليه)، قال سيدنا عليٌّ: « بلى يا أمير المؤمنين إنه يضروينفع.... وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود، وله لسان ذلق، يشهد لمن يستلمهبالتوحيد» فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع، فقال عمر: أعوذ بالله أنأعيش في قوم لست فيهم يا أبا حسن»(مستدرك الحاكم/ 1682). ولعل إدراك وجه التسليم لله عز وجل في فريضة الحج وأداء العبادة على وجهها، أن الغرض منه تهذيب النفس وسكونها وتأديبها مع ربها وتعليمها الانقياد والتسليم طواعية لسائر التكاليف الشرعيَّة والقوانين المرعية بما تستقيم به البشرية، ولعل هذا ما دفع الإمام القرافي المالكي رحمه الله تعالى إلى القول بأن فريضة الحج يغلب عليها جانب العبادة البدنية؛ نظرًا لتعلق آثارها بالبدن الذي قام بهذه العبادة. لمزيد من مقالات د شوقى علام