في موسم الحج، تهفو القلوب إلي زيارة بيت الله الحرام، ويتمني كل منا أن لو كان واحدا من هؤلاء الذين كتب الله لهم الحج هذا العام..يطوفون ويلبون.. يكبرون ويحمدون ويهللون..«لبيك اللهم لبيك...». لكنها الأعذار التي منعت أناسا طالما اشتاقت نفوسهم، أخلصوا النية، وأعدوا العدة وشمروا عن سواعدهم.. فماذا عسي أن يفعل هؤلاء المحرومون، وهل من عجز عن الحج حرم خير هذه الفريضة أم أن هناك أعمالا يمكن أن تعوض هذا العمل للمعذورين؟ الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق يوضح أن من منعتهم الأعذار عن الحج لا تزال أمامهم من أبواب الخير الكثير والكثير مما قد يكافئ في ثوابه أجر الحج، فما دامت النية موجودة وأخذ المرء بالأسباب إلي أداء فريضة الحج، وحيل بينه وبين الذهاب للحج لأي سبب من الأسباب، سواء كان لأسباب صحية أو مالية أو إجرائية، كالتي ترتبط بقرعة بين المتقدمين للحج أو شروط وضوابط الدولة المنظمة للحج..وغير ذلك من الأعذار.. هؤلاء لا عليهم، فهذه أمور لا يؤاخذ عليها الإنسان، لأنها فوق طاقته، ولا دخل له فيها، والله تعالي يقول «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..». ويقول أيضا «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي..». فأنت تنوي الحج لكن الله لم يقدر لك حتي الآن، أو لم يقدر لك هذا العام، فقدر الله وما شاء فعل. لكن هناك أمورا وأعمالا قد يعدل ثوابها أجر الحج ويزيد إذا التزمها العبد وحرص عليها مخلصا النية لله تعالي، من هذه الأمور: استحضار النية دائما وأن تكون دوما مشتاقا لحج بيت الله الحرام والحرص علي العمل الصالح، وما أكثر الأعمال الصالحة، لا سيما في هذه الأيام المباركة، لقول النبي صلي الله عليه وسلم »ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام - يعني الأيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء. وفي رواية: فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير (أي أكثروا فيهن من قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر). فالأيام العشر الأول من ذي الحجة لها فضل عظيم عند الله عز وجل يجب اغتنامها في الطاعة وأعمال البر والخير، فمن فضل الله تعالي علينا أن أرشدنا إلي ما يضاعف لنا الحسنات ويمحو السيئات، من ذلك أيضا صوم يوم عرف،فهو يكفر سنة ماضية وسنة مستقبلة، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده. والحديث يدل على أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين. ومن الأعمال التي تضاعف الحسنات أيضا: الإكثار من الصدقات والإنفاق في سبيل الله، وقضاء مصالح العباد، فقد جاء رجل للنبي صلي الله عليه وسلم يسأله حاجة، فقال له النبي اذهب إلي عبد الله بن عباس، فذهب الرجل فوجد ابن عباس معتكفا في المسجد، فسلم عليه وجلس إليه، فقال له ابن عباس: يا فلان إني أراك مكتئبا حزينا، قال نعم يا ابن عم رسول الله، فإن لفلان عليَ حقا ولا أقدر ان أرده ولا أقدر ان أرده إليه، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه، قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ قال الرجل: إن أحببت. فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد (أي من المعتكف)، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه (أي الاعتكاف)، قال: لا، ولكني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم، والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول« من مشي في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا من اعتكاف عشر سنين«. فلم يترك ابن عباس رضي الله عنه اعتكافه في أي مسجد, بل ترك الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, مع ما له من أجر مضاعف وعظيم, ولم يتركه لينقذ مسلما من الموت جوعا أو بردا أو خوفا وذعرا, بل خرج ليتوسط له عند دائنه بالتأجيل والنظرة إلى الميسرة فحسب, وهي حاجة ربما يستصغرها بعض المسلمين اليوم, إلا أنها كانت كافية لإخراج ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم من معتكفه وعبادته .فقضاء مصالح الناس يفوق الاعتكاف وأولي منه. وأضاف الشيخ عاشور مما يدل علي عظم قضاء حوائج الناس وإغاثة لملهوف والمحتاج ما روي عن عبد الله بن المبارك حيث كان يحج عامًا ويغزو في سبيل الله عامًا، وفي العام الذي أراد فيه الحج (حج نافلة).. خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره، فوجد امرأة في الظلام تنحني على كومة من القمامة تفتش فيها حتى وجدت دجاجة ميتة فأخذتها وانطلقت لتطهوها وتطعمها صغارها، فتعجب ابن المبارك ونادى عليها، وقال لها: ماذا تفعلين يا أمة الله؟ وذكرها بالآية (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ). فقالت له: يا عبد الله اترك الخلق للخالق فلله تعالى في خلقه شئون، فقال لها ابن المبارك: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك.. فقالت المرأة له: أما وقد أقسمت عليّ بالله.. فلأخبرنَّك: إن الله قد أحل لنا الميتة، وأنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات، ولا يوجد من يكفلنا، وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوبًا رحيمة فخرجت ألتمس عشاء لبناتي اللاتي أحرق لهيب الجوع أكبادهن فرزقني الله هذه الميتة .. أفمجادلني أنت فيها؟، وهنا بكى عبد الله ابن المبارك، وقال لها: خذي هذه الأمانة، وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج وعاد إلى بيته ولازمه طوال فترة الحج. وخرج الحجيج من بلده فأدوا فريضة الحج، ثم عادوا، وذهبوا لزيارته في بيته ليشكروه على إعانته لهم طوال فترة الحج، فقالوا له: رحمك الله يا ابن المبارك ما جلسنا مجلسًا إلا أعطيتنا مما أعطاك الله من العلم، ولا رأينا خيرًا منك في تعبدك لربك في الحج هذا العام. فتعجب ابن المبارك من قولهم، واحتار في أمره وأمرهم، فهو لم يفارق البلد، ولكنه لا يريد أن يفصح عن سره، ونام ليلته وهو يتعجب مما حدث، وفي المنام يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- يقول له: جزاك الله عن أمتي خيرًا يا عبد الله بن المبارك، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى .. وسترك كما سترت اليتامى، إن الله سبحانه وتعالى خلق ملكاً على صورتك كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج .. وإن الله تعالى كتب لكل حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة. الدكتور إمام رمضان إمام أستاذ العقيدة والفلسفة المساعد بجامعة الأزهر يقول:إن أول ما يجب أن يشغل المسلم بشكل عام هو أداء الفرائض والتكاليف الشرعية الواجبة عليه، فمن عجب أن يظهر بعض الناس حزنه لعدم ذهابه للحج، معلنا شوقه واشتياقه لأداء هذه الفريضة، وفي الوقت نفسه تراه لا يحرص علي صلاة الجماعة، أو يقصر في أداء بعض الفروض التي لا تحتاج سفرا ولا زادا أو راحلة، فالتقصير عن الحج قد لا يكون في استطاعة البعض لما يحتاجه من نفقات وزاد وراحلة، أما صلاة الجماعة والصلاة في وقتها، والتزام الصدق والأمانة وحسن الخلق مع الناس كافة، أين هو من الزكاة والصدقات..وغيرها من أمور هي في متناول الجميع. فإذا كان الله لم يقدر لك الحج هذا العام وحبسك العذر، فماذا عن باقي الطاعات والعبادات المشروعة؟ فالله لن يسألك عن شيء فوق طاقتك، لكنه سبحانه سائلك عما كلفك به ماذا أتيت منه، وعما نهاك عنه.. أين أنت منه؟ وأضاف د. إمام أن الله عز وجل جعل لنا أوقاتا علي مدار العام العبادة فيها تمحو الذنوب وترفع الدرجات، وهو ما وصفه النبي صلي الله عليه وسلم ب«النفحات»، ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام « إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة، لا يشقي بعدها أبدا..».