المدينة الجامعية بجامعة حلوان تعلن استعدادها لاستقبال الطلاب    ارتفاع مؤشرات البورصة المصرية بمستهل تعاملات اليوم    خبير: التنمية السياحية في جنوب سيناء تحتاج جهد الدولة مع القطاع الخاص    «حزب الله» يعلن قصف مقر الموساد في تل أبيب    أسوشيتيد برس: النصر الذي تطمح إليه إسرائيل على حزب الله ربما يكون بعيد المنال    فتح الله يوجه نصيحة لدفاع الزمالك قبل السوبر الأفريقي    وفاه شخص أثر انقلاب سيارة ملاكى فى ترعة بمركز صدفا فى أسيوط    عاجل - أجواء خريفية حارة تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف تفاصيل الطقس حتى نهاية سبتمبر    القبض على سائق متهم بالتحرش بفتاة في منطقة الدقي    تحذيرات من تلوث مياه الشرب: هل هي حقيقة أم شائعات؟    وزارة الداخلية تقرر رد الجنسية المصرية ل 36 مواطن    استشاري يحذر من الخلافات الأسرية: تصيب الأطفال بالانطوائية والعنف    إيساف يستقبل العزاء في شقيقه اليوم    نجم الزمالك السابق: قلقان من أفشة وهاني لما بيسيب مركزه بيغرق    تداول 12 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    مدبولي يستمع لشرح موضوع في اللغة العربية عن الوطن بمدرسة متولي الشعراوي بالسلام    السوبر الأفريقي.. جوميز يحسم حيرة مركز الظهير الأيسر في الزمالك    صحة المنوفية: إدارة المتوطنة تقدم خدماتها ل 20 ألف مواطن خلال أسبوع    استشهاد 6 فلسطينيين وإصابة آخرين في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    الكيلو وصل ل50 جنيهًا.. نقيب الفلاحين يكشف موعد انخفاض أسعار الطماطم    انخفاض أسعار البيض اليوم الأربعاء في الأسواق (موقع رسمي)    وزير الدفاع والإنتاج الحربي يشهد حفل تخرج الدفعة 166 من كلية الضباط الاحتياط    تفاصيل الحالة المرورية اليوم: زحام في المنيل وسيولة أعلى كوبري أكتوبر    تشكيل ليفربول المتوقع.. 7 تغييرات.. وموقف صلاح أمام وست هام    "ظهور محتمل لعبد المنعم وصلاح".. جدول مباريات اليوم الأربعاء والقنوات الناقلة    صالون «إسراء» أول محجبة مذيعة على قناة قبطية أمريكية!    إيمان العاصىي عن مسلسل برغم القانون : آمنت بالمشروع من أول حلقة وقلت أنا همضى إمتى    حكم الصلاة بالتاتو والوشم    مستقبلك مصري، جامعة الأقصر تدشن ندوة تثقيفية لتفعيل مبادرة بداية (صور)    وزير الصحة يبحث سبل تعزيز في ملف تطوير الصناعات الدوائية    قطر تنضم لبرنامج الإعفاء من تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية    وزير الخارجية الصيني: سنواصل الدفع نحو وقف إطلاق النار في غزة    كاتب صحفي: مصر حريصة على تدريب كفاءات جديدة عن الأمن السيبراني    مصر سابقة بالتجهيزات.. قضايا الأمن السيبرانى أصبحت أساسية بمنظومة الأمن القومى للدول    تحذير بريطاني لمواطنيها: مغادرة لبنان فورًا    هل نقص المغنسيوم في الجسم يهدد حياتك؟    «الوطنية للإعلام» تنعى الإعلامي أيمن يوسف    هكذا احتفل محمود البزاوي بعيد ميلاده.. صورة    تصاعد التوترات بين إسرائيل وحزب الله: إنذارات وصواريخ وعمليات قصف    أبطال فيلم عنب يحتفلون بالعرض الخاص قبل عرضه اليوم بالسينمات (صور)    خلال تبادل إطلاق نار.. مصرع متهم هارب من أحكام قصائية في قنا    بأسلوب كسر الباب.. سقوط لصوص المنازل بحلوان    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأربعاء 25 سبتمبر 2024    هل هناك نسخ بالقرآن الكريم؟ أزهري يحسم الأمر    أنقرة: الصراع الأوكراني يهدد بمواجهة عالمية طويلة الأمد    برنامج تدريبي لأعضاء هيئة التدريس عن التنمية المستدامة بجامعة سوهاج    تحرك عاجل من كاف قبل 72 ساعة من مباراة الأهلي والزمالك بسبب «الشلماني»    بعد ظهورها في أسوان.. تعرف على طرق الوقاية من بكتيريا الإيكولاي    بشرى للموظفين.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للقطاع العام والخاص والبنوك (هتأجز 9 أيام)    حمادة طلبة: الزمالك قادر على تحقيق لقب السوبر الأفريقي.. والتدعيمات الجديدة ستضيف الكثير أمام الأهلي    ما حكم قراءة سورة "يس" بنيَّة قضاء الحاجات وتيسير الأمور    فريق عمل السفارة الأمريكية يؤكد الحرص على دفع التعاون مع مصر    حظك اليوم| الأربعاء 25 سبتمبر لمواليد برج الحمل    خلال لقائه مدير عام اليونسكو.. عبد العاطي يدعو لتسريع الخطوات التنفيذية لمبادرة التكيف المائي    تشيلسي يكتسح بارو بخماسية نظيفة ويتأهل لثمن نهائي كأس الرابطة الإنجليزية    هل هناك جائحة جديدة من كورونا؟.. رئيس الرابطة الطبية الأوروبية يوضح    رسائل نور للعالمين.. «الأوقاف» تطلق المطوية الثانية بمبادرة خلق عظيم    خالد الجندي يوجه رسالة للمتشككين: "لا تَقْفُ ما ليس لكم به علم"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ركعات العشق والوضوء من نهر الحب
نشر في الأهرام اليومي يوم 11 - 09 - 2015

ولأنى أحسن الثقة فى عشق رحمة السماء بي؛ لذلك صرت أمتلك خيالا عن الجنة كما أريدها لنفسى بعد اكتمال رحلة العمر . وأثق أنى أجدت تفصيل موقع الجنة الخاص بي؛لأن ما فى هذا الموقع سيهبنى سعادة لا كدر فيها .
وأكرر القول إن الحق خالق الكون بدنياه وآخرته وهبنا حق الاختيار وهو ممنوح لنا منذ الميلاد ، ولن يسحب هذا الحق عند من يحسنون الظن به وعملوا قدر الطاقة على فعل ما آمنوا أنه صواب .
وكان أول صواب أحسبه فى حياتى هو رؤيتى لمستقبلى فور سباحتى فى نهر نبع من صوتها ، لأرى على ضفة النهر كوخا سبق تخيله فى رواية «عشيق ليدى تشاترلى» حيث سكن حارس لا يجيد الكلام ، ولكن فى عينيه حنان أذاب سيدة القصر فمضت إلى عشقه دون وجل . وبجانب الكوخ ظهر سوق مزدحم الإرتباك ، هو سوق أيام العمر السابقة واللاحقة .
ولم يكن هناك مفر من اقتحام سوق الأيام المرتبكة . وحين كان الواقع يرهقنى علمت نفسى كيف أسترجع مكانى من نهر ضحكتها, لأدخل إلى الكوخ فأقابل كل أحلامى وأجدد الطافة لمزيد من شق الطريق وسط الزحام المرتبك للحصول على ما يحقق لى مكانة تفرح بها صاحبة الصوت الرقراق وتظلل الكوخ ، وأجد نفسى آخر كل نهار وأنا أجلس تحت شجرة عنب ملونة بجانب ذلك الكوخ .
وأسمعها تنادينى باسمى ، فأولد من جديد بلا تعب أو إرهاق .ثم تتماسك يدانا ليرفرف قلبانا بأغانى المحبة ، ومن دقات خطواتنا على الأرض أسمع الكون كله يغنى بحكاية عشقنا التى لم أكن أعلم _ ياويلى _ أن الانكسار سيأتيها لتتهشم أيامنا معا على أرض الزحام المرتبك,
وكان ما يواسينى هو هذا الخيال الذى أستظل به من وهج المرارة الساطعة على حياتى ، فأجد إصرارى على مشهد الجنة وتفاصيلها كما أريدها لنفسى . وبذلك أهرب من مشاهد فشلى فى مواجهة ظروف زحام إرتباك الأيام والشهور والسنين التى قتلت لقانا طوال سنوات كثيفة ، وصارت لحظات حياتى هى رحلة مستمرة للحلم باتساق سماوى سيأتى يوما ما .
.........
مازال المشهد الأرضى يتهادى فى الذاكرة ، لأجد نفسى منذ ميلادى فأنا ألهث كى أصل إلى الثامنة عشرة واصير طالبا للفلسفة بآداب الإسكندرية ، لأجد نفسى مولودا ذات يوم من أوائل أبريل لحظة أن سمعت صوتها تتحدث عن كتاباتى فى مجلات الحائط والتى كنت أنادى فيها محبوبة لا أراها ، إلى أن تجسدت أمامى ، فطرنا معا فى سماوات عشق لا يعرف الملل أو التعب .
ومازلت أتذكر كيف شاهدنا معا أفلام صوفيا لورين ومسرحيات شكسبير وغناء أم كلثوم ، وصوت شارل أزنافور المشروخ بأشواقى إليها رغم أن يدى لحظة سماعنا لغناءه تكون فى حالة عناق مع يدها ، وأن بشرة يدها تغنى لبشرة يدى كل أغانى عبد الحليم حافظ .
ومازلت أسير فى شارع األمعز متذكرا خطواتنا معا بعد سماع الموسيقى الكلاسيكية من أول أوركسترا سيمفونى بالقاهرة بقيادة اليوغسلافى ليتشاور ، لنصل بعد وقت لا نعلمه إلى مقهى الفيشاوى ليستقبلنا الجرسون سليمان ، فيأتى لنا بنصف كيلو الكباب لنلتهمه مع زجاجة المياه الغازية ، ثم نحتسى الشاى الأخضر ، ولتدور كلماتنا كأنها موسيقى جديدة تحكى قصة حواء وآدم على ظهر كون جديد لم يسبق لأحد الميلاد فيه .
ثم جاءت النهاية حين ذابت أقدامنا بحثا عن شقة صغيرة تضمنا معا ، وكانت قيمة «خلو الرجل» فوق أى خيال ؛ فضلا عن ضغوط أبيها عليها بسلسلة أمراض الشيخوخة حتى ترضخ للزواج بابن الصديق الذى سيتنازل عن الديون الهائلة على الأب . وهكذا تكور الزمن السعيد لينتهى ككرة من خيوط تلتف على رقبة الأحلام ، لتذهب إلى الفضاء بغير اتجاه. فأصبح وحيدا لانها لا ترد على مكالماتى ، وتتجنب بجسارة انتحارية أى لقاء أو تواصل أو ذكر لى مع أصدقائنا المشتركين . ولم ترضخ لرسائل التوسل المبللة بآهات الحزن الجارح التى تحملها رسائلى .
وأيقنت أن فرويد لم يكذب حين كشف عن مدى رضوخ أى ابنة لعشق أبيها ، وطاعته ، لتبدو كآلة منفذة لمستقبل لم تفكر فيه يوما لنفسها .
وبقى لى تجوال مستمر فى كل أماكن لقانا ، لتخرج صور التذكار من الجدران لتحكى لى ما فات وكأنه مستقبل ، وتروى لى أحلاما تهشمت لكن خيالى كان يعيد لملمتها لتصير إلى حياة جديدة .
ولن أذكر عدد السنين التى فصلت بيننا ، لأن دوران الزمن لم يستطع محوها من أيامى ، لكنى سأذكر ما فاجأنى حين سرت فى شوارع المعز ، وكان ميدان التعبة خلفى ، وخلف ميدان التعبة كانت الأوبرا المحترقة قد صارت جراج سيارات ولم يعد هناك ليتشاور قائد الأوركسترا الذى استحضره ثروت عكاشة وزير الثقافة الذى أخذ من خيال د. حسين فوزى سندباد الحضارة المصرية ، أخذ من خياله كل أحلام الإخلاص لموسيقى بيتهوفن ،ومزجها بعشقه اللامتناهى لفاجنر ليضع على مسرح الأوبرا القديمة كل قداسة الارتقاء بإنسانية الإنسان ، ولم يخفت فى ذاكرتى قوله لى ونحن جلوس على ضفاف البحيرات المرة في« فيلا هالا هالا »المملوكة لشقيقه صديقى د. أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسى ، كلمات ثروت عكاشة لى كانت » مادمت قد أحببتها كل هذا الحب .. لماذا لا تأخذ مؤلفاتى لتعيد كتابتها بأسلوبك كرسالة حب إلى تلك المحبوبة الغائبة ؟ » ضحكت لمن كان مثلى الأعلى وأنا فى عمر الرابعة عشرة قائلا » ماكتبته أنت هو شهادتك على العالم وشهادتى تختلف عن شهادتك ، فأنت الجليل العاشق الذى قام بفك أحجار أبو سنبل ، أما أنا فعاشق لا جلال لتاريخه ، لأنى لم أستطع الحصول على شقة كبيت للحب ، ولن أحملك مسئولية عجزى عن الحصول على تلك الشقة، فلم تكن مسئولا عن بناء بيوت للعشاق . وضحك ثلاثتنا د. ثروت ود. أحمد وأنا ، وإن اختلفت ضحكتى عن ضحكاتهما لأن ضحكتى كان لها ذيل من دموع متجمدة بحكم السنوات التى مرت على قرارها بتقديم قصة حبنا على قربان تنفيذ مشيئة أبيها .
وحين سرت آخر مرة فى شارع المعز وقبل الوصول إلى ميدان الحسين ، رأيتها بتاج الشيخوخة الأبيض فوق رأسها ، لكنها امتلكت نفس ضوئها, القديم فى عيونى, فهتفت بإسمها، فإلتفتت، وأسرعت تمسك بيدى، فهمست » على مرمى نهاية هذا الشارع وعند مدخل الأوبرا كان فندق الكونتيننتال، ومكتب شركة مصر للطيران، فابتسمت لأن المكان شهد جراءة مشتركة تلامست فيها شفاهنا بسرعة لاهثة، حملت اعترافا بأنها لن تكون امرأة إلا لى، ولن أكون رجلا إلا لها . ولكنها أثرت انتحار طائر الحب على مائدة إرادة الأب العجوز . وهاهى الأن بتاج الشيخوخة وأنا بنفس التاج نلتقى لزيارة الولى الطاهر سيد شهداء أهل الجنة الحسين بن على .
.........
وبدا موجز إعترافاتها عن أيامها بعيدا عنى .
.........
العمر فوق الخامسة والستين والسنوات كرماد محترق خلفها. ولولا القراءة لماتت كمداً. سطور الكتب تجعل الأعماق تهرب من هذا المسلسل الصعب المسمى توالى الأيام. والناظر إلى حياتها قد يندهش لأنها تعانى الاكتئاب؛ فهى ثرية بفضل ابن وحيد يلمع فى سماء لندن كطبيب نادر وهى فوق ذلك تحضر الندوات الأدبية وتسمع الموسيقى وتقرأ الكتب. وتحاول معظم الوقت تجاهل المطرقة التى لا يراها أحد وهى تهشم عظامها وتحولها إلى تراب وحتى عيادات أطباء النفس لا تملك تخفيف الألم الداخلى؛ فكل ما يملكونه هو أقراص تخفف من ضربات المطرقة السرية على عظامها. وبذلك يمكنها أن تنام.لكن لا أحد يغير ما بالنفس إلا خالقها.
ومعظم الوقت تدفن رأسها فى الكتاب الصغير عن حياة الحسين بن منصور الحلاج؛ الصوفى الذى عاش عام 858 ميلادية. ولا أحد يعرف لماذا أمر وزير ذلك الزمان بتعليقه على الصليب بعد محاكمة من قاض لا يثق به أحد.
هل لأن الرجل نادى بالحرب ضد فقر الروح المسمى اجتلاب الثروات وكنز المال وعدم إحساس الأغنياء بالمسئولية عن الفقراء؟ أم لأن الرجل كما تقول بعض الروايات قد اصطحب صديقاً إلى نزهة فى خارج البلدة البيضاء وتحداه الصديق أن يأتى له بثمرة من نبات الخيار؛ فتمتم الرجل ببضع آيات وامتدت يده إلى بطن جبل فجاء له بثمرة خيار من جبل ثلجى. واعتبر الصديق هذه المسألة معجزة وكرامة.واعتبرها وزير ذلك الزمان القديم افتراء وكذباً واستحق الحلاج أن يصعد على الصليب من اجلها لتقطع أوصاله بسيف الجلاد.
ولم تجد السيدة فى تلك الروايات أى نسيان لما تريد أن تنساه. إنها تريد أن تنسى أنها أجبرت الابن الراقى أن يتزوج ابنة شقيقتها ، تم زفاف الابن إلى الفتاة التى أرادتها له؛ وحين أحس الأب غياب التوافق ، أصر على الطلاق.
لا يستطيع أحد أن يجبر الأبناء على فعل ما لا يرغبون. كانت تنظر إلى ابنها كجوهرة نادرة التى أرادتها مصقولة على هواها ؛ولكن تغير الزمن.. فلم تعد هى التى تفرض على الابن ما تريد.. بل صار الابن يقنعها بأن تتصرف كما يريد. وهو على سبيل المثال من أقنعها بسحب أموالها من شركات توظيف المال التى تلتف بعباءة الدين؛ قائلا لها »أتعجب من كثرة كلامك عن الصدقات وكفالة الفقير ثم تضعين المال عند هذه الشركات بدعوى أنها تعطى ربحاً وفيرا. هم يدنسون وظيفة المال فى الحياة الإيمانية. لأن المال مجرد خادم وليس إلهاً يتجه إليه الناس«.
وعلمها الابن أن تحكم العقل فى أقاصيص العلم بالدين ورأت أن فى وضع المال فى أى شركات للمال شبهة امتصاص دماء الأطفال فالرحلات المكوكية من الدولار إلى الجنيه إلى الذهب إلى الفضة هى فى ظاهرها تتيح مكسباً خرافياً ولكنها تنزع عن المال وظيفته الفعلية وهى إقامة المصانع والمزارع والبيوت وأن يرتضى الناس الربح القليل مع سعادة لكل الناس. لا أن تمتد المضاربة إلى كل شئ وأن تجمع قلة من المضاربين ملايين الجنيهات والدولارات ويتركوا الابتهالات لمن لا يقوى على اقتحام دائرة الثراء. فالفقر يساوى الكفر كما يقال. قال الإبن لأمه:
- دعينى أقل لك إن المال إن خرج عن دائرة خدمة كل المجتمع إلى دائرة الجشع والتستر بالتجارة فهو يجعل الحياة كحياة المخيمات. أنت تعرفين أنى عملت كطبيب فى مخيمات بيروت ورأيت التصاق كل شئ بأى شئ. فالطعام التصق بالإهانة، والموت انفصل عن الكرامة، والحب صار فعلاً ميكانيكياً، والنشوة صارت مجرد لحظة سقوط قنبلة بعيداً عن احتمال إصابة البشر، وهناك يمكنك يا أمى أن تشاهدى بعيونك السلاح وقد تزوج الموت. والموت هو المائدة المجانية للجميع .خذ موتك من أى طبق تحب؛ موت بالقنابل؛ موت بالرصاص؛ موت بالقهر. ولا يمكنك يا أمى أن تتركى المال يصنع مزيداً من الفقر حولنا بينما نحن نصرف أرباحاً بالدولارات لنبيعها فى السوق السوداء.
هذا الابن هو الاقتناع الوحيد الذى بقى لها فى هذا العالم. وصارت مؤمنة بأن
المال خادم للإنسان وليس سيداً فقصة حبها ماتت لأن والدها جعله تنتحر عاطفيا بقبول زواج يعفيه من ديون كثيفة . وعندما قرأت عن وظائف المال فى الدين تعلق بذاكرتها ما قرأته عن الإمام محمد عبده عندما دار فى أطراف مصر عام 1902 ليجمع المال لإعادة بناء ميت غمر التى أصابها حريق مهول. ونادى بضرورة خصام النوم لجفون أى مؤمن حق ؛ يملك ولا يهب المحتاج ، فلا يجب أن يتمرغ أحد فى نعم الله بينما له أخ يتمرغ فى وحل عدم القدرة فى العثور على مأوى.
وهاهى الخطوات تقودها إلى سيدنا الحسين. هذا الطريق صار مختلفاً. فعند الموسكى كانت المحلات وكانت الحدائق وعند شارع الأزهر كان الاتساع وكانت البضائع.الآن صار هذا زمان مطيورا يجرى على سيارات من صفيح وعجل وضجيج. وهى ذاهبة إلى سيدنا الحسين لعلها تغسل بالصلاة ما فى أعماقها من مرارة تكرار انكسار الأحلام. وقد صار قلبها راقصة باللوعة بين الضلوع؛بينما أحترفت عيونها البحث عن خيال من أحبته ونادت أولياء الله الصالحين أن يعود الزمن إلى الوراء ، ولكنها تسخر من حلمها الأهوج هامسة لنفسها » نحن المصريين نعذب أولياء الله الصالحين بطلب الوساطات المستحيلة.
وتطاردها أحيانا تذكر زغاريد زفافها الدامى ، زغاريد فى أفواه الخدم ؛ ليلة انتزاعها من حلمها الوحيد بأن تكون لحبيبها لتزف إلى رجل استدان والدها من والده آلاف الجنيهات . وتهرب من عواء الزغاريد إلى تذكر أغانى عبدالوهاب الأولى عن البلبل الحيران الذى راح إلى اليمين وراح إلى الشمال. لكن لا زهر السوسالجن تكلم ولا نطقت زهور التمر حنة بدموعها. كيف نسوا أن من حق المرأة أن تعلن رأيها بوضوح الكلمات فى أمر الزواج؟
ظل هذا السؤال معلقاً فى رقبة القلب كل سنوات العمر. ووجدت عشرات الإجابات عن القسمة والنصيب والقضاء والقدر. ولم ترتح إلا لما فهمته من كلمات إبنها عن معنى الحياة دون كذب . وكثيرا ما يلمع يوم زفافها فى ذاكرتها كأنه سكين لامعة مغروسة فى شجرة تنزف دماً. رأت نفسها يوم الزفاف امرأتين. امرأة تلعب دور العروس وامرأة تتفرج على الذى يحدث لها. ومن نسيج المرأتين خرجت امرأة ثالثة تظهر الطاعة للزوج ؛ بينما ينطلق الخيال بعيداً إلى دنيا من الأسئلة الصعبة. لو كان الحبيب هو الذى يحتضننى، لو كان الحبيب هو الذى يكلمنى. لو كان الحبيب هو الذى يأتينى. لو كان هو، وهو، وهو، وهو..
صار الحبيب هو الزوج السرى للمرأة الحقيقية الموجودة فى أعماقها. أما الظاهر فكان يملكه الزوج العلني.
وهكذا تذوقت أياما من مرارة أن يعيش الإنسان اشتياقاً من الباطن إلى غير الظاهر. رأت الحسين بن منصور الحلاج وهو يسير فى الخيال من مدينته إلى الكعبة. ليحيا هنا فى سنة من الصوم الكامل اقتداء بمريم ابنة عمران لعل كلمات السماء تولد فيه.هرب الحلاج من هول الواقع عندما رأى الناس تتجه فى الصلاة إلى قبلة واحدة خمس مرات فى اليوم؛ لكنهم يتناحرون فى الأوقات التى بين الصلوات. انتابت الحلاج صاعقة عندما رأى الناس تعقد النية على الصيام قبل الفجر بدقائق أيام رمضان وتفطر فى ميعاد واحد لحظة الغروب، لعل قوة روحية تجمعهم على أمل وعمل واحد.لكن حتى هذا الجهد لم يوحدهم. سار الحلاج إلى مكة صائماً ليعيش سنة كاملة بشوق فى الباطن يختلف عن رؤية أهل الظاهر لعل كلمات السماء تشرق فى روحه. وأشرقت كلمة واحدة فى أعماقه عندما قال »لو ألقى مما فى قلبى ذرة على جبال الأرض لذابت« ولكن الأرض لم تذب. الذى ذاب هو جسد الحلاج عندما صلبوه بقاض مهلل الذمة وثمانين من الشهود المحترفين.
ولولا نعمة الله عليها وهى العاشقة لماتت كمداً. أهدتها السماء الابن الوحيد من اللقاء الوحيد تقريباً مع الزوج. وكانت عيون الابن هى أجمل من قصور القاهرة والإّسكندرية وكل بقاع الكون. وكان الابن هو الجسد الوليد الذى تملكه هى ويمكن أن تحقق به أحلاماً لم تنكسر.
لم تلحظ بعين الرعاية والاهتمام انشغال الزوج عنها بعد أن لمس فيها رفضاً له.وعندما عرضت عليه أن يطلقها وأن يتزوج غيرها تمسك بها كسيدة فى المنزل تديره ويدير هو أمور حياته الخاصة بعيداً عنها. وكثيراً ما سمعت عن نساء فى حياته. ثرثروا بأنه يفوق كل الرجال فى صحبة نساء السهر اللذيذ. ولكنها لم تشعر بأن فى ذلك أى إهانة لها. فليفعل ما يريد وليظل بعيداً عنها. فقط عليه أن يترك لها الابن الذى تحكى له الحواديت. وهى من أصرت على أن يكون طبيباً؛ لعلها تجرؤ ذات يوم وتحدثه عمن تمنت أن تنجبه منه ، لكنه صار الطبيب المشهور ولم تجرؤ على الحديث إليه عن حبها المفقود.
وتتوالى الحكايات عن الزوج الذى ينحرف بافتقاد حياة أسرية بأن يلقى نفسه فى أحضان الأوهام المزوقة وهى تعيش حياتها لتتمسك بالابن. عليه أن يستذكر وأن ينجح وألا يصله أى شئ عن حياة أبيه التى لاتشرفه. فهو أب مغشوش ؛ فهو الأب الذى إبتعد عنها وعن الإبن بقرار منها.
ورغم إزدحام الثرثرة عن خطايا الزوج ، إلا أن أحدا لم يكن بإستطاعته الإلتفات إلى خيانات غير مرئية تحلم بها وحدها . والحديث دائماً عن مغامراته التى تشبه مغامرات الانفتاحيين الذين تتحدث عنهم الجرائد هذه الأيام وكثيراً ما اتهمت نفسها بأنها السبب وكثيراً ما استثمر هو هذا الإحساس لديها لتتقن خدمته ويزيد فى إذلالها. واستمرت اللعبة فى تأجيل المواجهة إلى أن انفجر فى رأس الزوج شريان أودى بحياته. ودار عفريت الصراخ والبكاء فى المنزل كما دار من قبل عفريت الزغاريد وعاشت فى نفس الموقف الذى عاشته يوم الزفاف، صارت امرأتين. امرأة عاشقة بلا حبيب قريب تتفرج على امرأة تمثل دور الحزن على زوج جمعهما زواج مزيف. واندثرت أحزانها كشريان مقطوع .
ولم يبق لها فى عالمها إلا حزن قليل وفرح قليل وحياة هامشية وارتدت السيدة ابنها. نعم كانت ترتديه كستار لكل أحلامها المكسورة. سهرت الليل وعملت بالنهار. وقرأت عشرات الكتب وسار الابن على الخط المستقيم لينجح.
وكبر الولد وتخرج طبيباً وسافر وعرف الدنيا. وكان الإلحاح منها دائماً هو أن يسرع بالزواج من ابنة شقيقتها فتزوجا وطلقها. وشاء أن يستقر فى لندن ليواصل دراساته وأعماله.
.........
عندما دعاها ابنها إلى لندن وجدت عنده فتاة إنجليزية تحيا معه ودار الحوار السريع.
- هل تزوجتها؟
- عرفياً.
اكفهرت وعلا ضغط الدم وقالت الكلمة الصعبة «قلبى وربى غضبان عليك إلى يوم القيامة».
رأت نفسها مرة أخرى تزف إلى رجل غير الذى تحبه. عاشت المشهد القديم.وكان لابد من الإغماء، ومن الإغماء إلى المستشفى ومن المستشفى إلى أحزان وأحلام.رأت فى الأحلام شخصاً له بهاء وجمال. قرأت عنه وقرأت له. شاهدت مسرحية تحمل اسمه وبحثت عن أسراره فى الكتب. إنه الحسين بن منصور الحلاج.ما الذى يأتى بالحلاج إلى خيال وأحلام امرأة ترقد بضغط الدم.؟ لا العلم يعرف ولكنها فرحت بهلاوس الحوار مع الحلاج.
رأت الحلاج يلملم لها كوشة زفاف تجمعها معه فى زواج لم يحدث أبداً. وكان ابنها يعرف مدى عشقها للحلاج المقدس لأنه صاحب فكرة مات فى سبيلها. وكانت تقول له دائماً الحكايات عنه. لقد حفظ عنها معنى من كلماته
«الحقيقة دقيقة، طرقها مضيقة، فيها نيران شهيقة، ودونها مفازة صحراء عميقة، القريب سلكها، يخبر عن قطع المقامات. مثل مقام الأدب، والذهب، والسبب، والطلب، والعجب، والعطب، والطرب، والشره، والنزه، والصفاء، والصدق، والرفق، والعتق، والتسويح، والترويح، والتمانى، والشهود، والعد، والكد، والرد، والامتداد، والاعتداد، والانفراد، والانقياد، والمراد، والشهود، والحضور والرياضة والحياكة، والانتقاد، والتدبر، والتحير، والتفكر، والتصبر، والتغير، والرفض والرعاية والهداية»..
.........
وتواصلت رحلاتها مع العلاج النفسى. ليكتمل انسحاب القمر من سماء العمر؛ فتصير الدنيا ظلاماً رغم الظهيرة. وهذا ما يسميه أهل العلم بالنفس اكتئاباً وتكورت ككرة فى طرفها حبل الزمن لتدور بسرعة وتذهب إلى الفضاء. بغير اتجاه.. وعندما تفيق من الاكتئاب تأخذها أقدامها إلى دروب سيدنا الحسين لتزور الولى الطاهر حفيد الشفيع الكريم ، لتقابلنى وتحكى لى تفاصيل ما مرت به منذ افتراقنا . ورأيت دموعها على صديقها الحلاج ورأت الزمن كأنه الجلاد الذى يشهر سيفه ومن حوله الرماح والدروع فقطع يد الحلاج اليمنى ثم أتبعها باليسرى. ولم يتأوه ولم يتألم بل ظل على الصليب يبتسم ويذكر الله ويناجيه وراحت الدماء تنزف غزيرة من ذراعيه بعد قطعها وتسيل بدلال ورقة حمراء قانية على خشبة الصليب تشكو ظلم الإنسان فاصفر وجه الحلاج فرفع ذراعيه المقطوعتين إلى وجهه وخضبه بالدماء حتى يستر اصفراره وقال مبتسماً: »ركعتان فى العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم«. همست لى : كلنا هذا الحلاج.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.