توثقت علاقتى بالشاعر الكبير عبدالفتاح مصطفى أحد رموز رواد الكلمة فى زمن الفن الجميل وصاحب مدرسة فى الكلمة المكتوبة التى تغنى بها معظم المطربات والمطربين المصريين والعرب . وكنت أنظر إليه بعين الإعجاب والتقدير لمكانته الشعرية هو وزملاء جيله من أمثال : مأمون الشناوى وحسين السيد ومرسى جميل عزيز وغيرهم ، وأحرص على حضور تسجيلات أغانيه فى استوديو مصرفون أمام مكتب بريد العتبة ( صوت القاهرة حاليا ً ) وتوثقت علاقتى به أكثر عندما أجاز لى بالموافقة أغنية من تأليفى منذ أكثر من أربعين عاما ً عام 68 « اتصالحنا أنا وحبيبى « ورشحت اللجنة الموقرة الموسيقار رياض السنباطى لتلحينها على أن تتغنى بها فى ذلك الوقت المطربة فايدة كامل ومازلت أحتفظ بأسطوانة من تسجيل هذه الأغنية التى كانت سببا فى تعرفى على الموسيقار الكبير رياض السنباطى وتواصلت علاقتى به فى كثير من تسجيلاته وكان همزة الوصل الذى أسهم فى توثيق علاقتى به مهندس الصوت كمال إسكندر المتخصص فى تسجيلات أغانى أم كلثوم . وكان السنباطى يحرص على أن تكون بروفات أم كلثوم وتسجيلاتها فى وجوده وليس غيره وهو ما كانت تحرص عليه أيضا ً أم كلثوم ثقة منهما فى خبرته فى مجال الهندسة الإذاعية. .... وفى أحد إحتفالات عيد ثورة 23 يوليو التى كانت تقام على مسرح نادى ضباط القوات المسلحة بالزمالك طلب السنباطى من الشاعر عبدالفتاح مصطفى أن تكون أغنية هذا الاحتفال عن مصر ونيلها وشمسها وظلها وزرعها ونخيلها وتراثها الحضارى كأغنية سياحية ليتم تصويرها فى هذه المواقع وتكون سببا ً فى جذب الوفود السياحية لمشاهدة مصر التاريخ والحضارة . واعتكف الشاعر عبدالفتاح مصطفى فى بيته لمدة أسبوعين لم يخرج من صومعته إلا بعد الانتهاء من تأليفها واتصل بالموسيقار السنباطى فى فيلته « فيلا راوية « 8 شارع اسماعيل الفلكى وبمجرد أن قرأ له المذهب الذى يقول « طوف فى جنة ربنا .. فى بلادنا .. واتفرج وشوف .. ضفتين بيقولوا أهلا ً .. والنخيل واقف صفوف .. وابتسامة شمسنا .. أجمل تحية للضيوف .. طوف وشوف « وابتهج السنباطى بجمال المذهب ودعاه للحضور فورا ً إلى فيلته لسماع باقى الكلمات ، وفى الموعد ذهب عبدالفتاح مصطفى إليه وبعد تناول فنجان الشاى معه قرأ له الكوبليهات الثلاثة التى أعجب بها السنباطى واتصل على الفور بالسيدة أم كلثوم وقرأ لها كلمات الأغنية فزاد إعجابها أكثر وأشادت بالمعانى الجميلة التى تضمنتها الأغنية وطلبت من السنباطى الدخول فى التلحين فورا ً لكسب الوقت وتحديد موعد البروفات بالاتفاق مع قائد فرقتها عازف القانون الأول محمد عبده صالح تمهيدا ً للتسجيل واستعدادا ً لكى تغنيها فى حفل 23 يوليو بنادى الضباط الذى ستنقله الإذاعة على الهواء مباشرة . .... واعتكف السنباطى فى صومعته أكثر من شهر متفرغا ً لتلحين هذه الكلمات الجميلة التى ملأت وجدانه التى صاغها باقتدار الشاعر الكبير عبدالفتاح مصطفى . وبعد الانتهاء من تلحينها اتصل بسيدة الغناء أم كلثوم وزارها فى فيلتها على نيل الزمالك وفى الموعد المحدد التقيا معا ً وقالت له سمعنى يا رياض اللحن فأمسك بالعود وكان رياض كما يعرفه كبار الموسيقين العرب فى هذا الوقت أنه عازف عود لا يضاهيه أحد وبدأت أم كلثوم تغنى معه مطلع الأغنية الذى أثار إعجابها وابتهاجها باللحن وطلبت منه الانتقال إلى الكوبليه الأول والثانى والثالث إلى أن انتهت الأغنية وشكرته على هذا اللحن البديع وطلبت منه الاتصال ب عبده صالح لكتابة النوتة الموسيقية وإجراء البروفات فى استوديو مصرفون بالعتبة ( التى امتدت إلى نحو 15 بروفة ) بحضور الفرقة الموسيقية كاملة 30 عازف بالإضافة إلى الكورال وبحضور مهندس الصوت كمال اسكندر والشاعر عبدالفتاح مصطفى الذى كان فى كل مرة يستمع فيها إلى أداء أم كلثوم يشعر بالانبهار والروعة والسعادة تملأ قلبه لأن كلماته تتغنى بها سيدة الغناء العربى وأجمل الأصوات التى يتجمع حول أغانيها الخميس الأول من كل شهر الملايين من مصر وكل الأقطار العربية. .... أما الحكاية التى لا ينساها السنباطى والسيدة زوجته وأبناؤه وسمعتها منهم اكثر من مرة زرت فيها المرحوم رياض وكانت هذه الحكاية مثار فخر واعتزاز منهم جميعا وأصبحت محفورة فى وجدانهم ولن ينسوها أبد الدهر وهى أن الزعيم جمال عبدالناصر سمع عن تجهيز أغنية وطنية تتغنى بها أم كلثوم فى عيد الثورة تلحين رياض السنباطى على مسرح نادى الضباط وفى اتصال بينهما أبدى عبدالناصر رغبته فى أن يشاهد السنباطى مع أم كلثوم على المسرح فى هذه الليلة كنوع من التقدير من جانب الرئيس للسنباطى الذى لم يره من قبل فى كل الحفلات السابقة التى تحييها أم كلثوم من ألحانه ، فردت أم كلثوم على الرئيس «بس يا ريس السنباطى عمره ما ظهر فى حفلة وفى كل حفل يضع اللحن ويجرى البروفات ويحضر التسجيل ثم يذهب إلى بيته ليستمع إليه عبر الأثير» ، فقال لها الريس: « أنا عايز أشوفه وهو يقود الفرقة الموسيقية على المسرح هذه الليلة وأنه مدعو لحضور حفل العشاء بعد انتهاء الحفل « ونقلت ذلك أم كلثوم إلى السنباطى الذى رحب بهذه الدعوة وأبلغها شكره وتقديره للسيد الرئيس وأنه سعيد بهذه اللفتة الكريمة له من جانب الرئيس وقبل بدء الحفل بساعتين كان السنباطى على مسرح نادى الضباط يقود الفرقة الموسيقية ويجرى البروفة النهائية للحفل قبل وصول موكب الرئيس، وما أن وصل الموكب وقرأ المذيع نص الأغنية وانفتح الستار لتظهر أم كلثوم وبجانبها رياض السنباطى وصفق الحاضرون لهما ودخلت أم كلثوم فى غناء المذهب الذى أعادته أم كلثوم مرتين واندمجت مع هذه الكلمات الوطنية الخالصة خصوصا ً فى الكوبليه الذى يقول « شوف أثار أجيال .. ملوا الدنيا حضارة وابتكار .. علموا قلب الحجر .. يوصف معارك الانتصار .. كان نهار الدنيا ما طلعش .. وهنا عز النهار .. طوف وشوف ..الجنود اللى بيحموا مجدنا من كل عادى .. اللى خطوتهم تبوسها أرضنا .. وتقول ولادى .. هى دى ثورة بلادى اللى حققها جمال .. « وتلتهب أيادى الحاضرين بالتصفيق لأم كلثوم والسنباطى اللذين نزلا بعد الحفل وقدمت أم كلثوم السنباطى إلى الرئيس الذى قال له «أحسنت يا رياض وأحسنت يا أم كلثوم» وبعد تناول العشاء غادر موكب الرئيس النادى وأم كلثوم إلى فيلتها على نيل الزمالك والسنباطى إلى فيلته بمصر الجديدة لتستقبله الأسرة ويروى لها كيف كان لقاؤه مع الزعيم البطل جمال عبد الناصر صاحب الشخصية القوية والنظرة الثاقبة والشموخ العظيم لقائد أعظم ثورة عرفها التاريخ . ودخل السنباطى إلى غرفة نومه ولم يغمض له جفن وظل يسترجع أحداث هذه الليلة التى صافح فيها الرئيس جمال عبد الناصر كأجمل ليلة مرت به فى حياته.