كنت قد تجاوزت سن الأربعين حين شاهدت لأول مرة فتيانا وفتيات يتبادلون التهنئة بما أصبح معروفا بعيد القديس فالنتاين. وعاما بعد عام اتسعت دائرة المحتفلين بهذا اليوم من حولي حتي وصل الاهتمام إلي مكتبي بالجامعة. فتيان وفتيات في عمر الزهور يتبادلون في هذا اليوم ورودا حمراء ويدفعون ببعضها لي ولغيري من أساتذتهم. ثم اتسعت دائرة الاحتفال لتشمل الأساتذة والموظفين جميعا. وزادت في وسائل الإعلام مساحات الاحتفال. وبلغ الاهتمام بالقديس فالنتاين ويومه الموعود ذروته بوصول موكب قداسته إلي منزلي لتبدأ الضغوط أن اشارك في تكريم هذا القديس الذي ظهر رمزا للحب بين المسيحيين الكاثوليك, وأصبح أخيرا محبوبا عالميا عبر الثقافات والأديان. فقد أصبح يوم الرابع عشر من فبراير هو ثاني عيد تأتي به العولمة إلي هذا العالم بعد الكريسماس منذ أن صرع الاقتصاد السياسة والمجتمع وأخضعهما كلية لرغباته. الغريب أن فالنتاين الذي أصبح أكثر القديسين شهرة في العالم هو أكثرهم غموضا وتحيط بحقيقته الشكوك من كل جانب. حتي إنه في عام1969 حذفت الكنيسة الكاثوليكية اسمه من تقويم القديسين الذين يتعين الاحتفال بهم عالميا. فالإسم كان لعدد كبير من القديسين الشهداء, ولايعرف أحد عن ذلك القديس أي شئ ومايقال عنه ليس إلا نوعا من الاساطير. ومع ذلك بقي اسم فالنتاين رمزا لعيد الحب في الرابع عشر من فبراير عند الكاثوليك ومن تأثر بهم, وفي السادس من يوليو عند الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية, وعند غيرهما في30 يوليو. ويبدو أن اساطير فالنتاين كانت اختراعات تم إبداعها في القرن الرابع عشر في انجلترا, حيث أصبح فالنتاين الأسطورة المؤسسة للعلاقة بين14 فبراير والحب الرومانسي. تلقفت الشركات التجارية يوم فالنتاين منذ زمن وحولته إلي عيد للمكاسب الضخمة. ففي عيد فالنتاين الماضي تبادل الناس حول العالم قرابة30 بليون رسالةSMS وبلغ إنفاق الأمريكيين وحدهم نحو120 بليون دولار, وبلغت مبيعات الزهور في يوم واحد1.4 مليار دولار, وهو ما يعادل40% من إجمالي مبيعات السنة كلها. وحصدت صناعة الشيكولاتة في ذلك اليوم450 مليون دولار. واليوم الذي يعود بهذه المكاسب الهائلة علي الشركات التجارية لابد وأن يجعل فالنتاين هو الأهم بين القديسين جميعا. حاول أن تتعرف علي غايات كل شاب في هذا العصر ولن تجد علي أجندته المستقبلية سوي ممتلكات مادية. وإن وجدت شيئا من الحب في تلك القائمة فسوف تجده مرتبطا بما سوف يعود عليه بالنفع من هؤلاء الذين يتمني حبهم. قدر لي يوما أن أبحث في المحتوي السياسي والاجتماعي للوعظ الديني في سنوات الستينيات والسبعينيات. وقد لاحظت تغيرات كبيرة في الأفكار الدينية المطروحة علي مدي عقدين من الزمن. كان الفكر الديني يعكس التغيرات في التوجهات السياسية السائدة في مصر, وكان في النصف الثاني من السبعينيات قد اقر بأن التجارة مع الله هي الوسيلة الأفضل في العبادة. ومن هذه التجارة استفحل الفكر الغيبي وانتشر في الثمانينيات وماتلاها واتسعت الفجوة بين الفكر الديني والأخلاق العامة. في ظلال العولمة اصبح كل شئ محكوما بآليات السوق وتحقيق المنافع وعقد الصفقات. لافرق في ذلك بين الأشياء والقيم فالكل في هذا العصر سلعة معروضة للبيع والشراء. ولكنه في الواقع يحاصر مشاعر الحب الحقيقية في عصر اقتصاد السوق الذي جعل المشاعر وحتي الابتسامة تجارة وهو واقع تلقينا بشأنه تحذيرات منذ أكثر من نصف قرن. في عام1955 نشر الفيلسوف الاجتماعي الألماني إريك فروم كتابالمجتمع السليم حيث طور نظريته عن الشخصية الاجتماعية التي تري أن كل مجتمع ينتج الشخصية التي يحتاجها. وأشار إلي أن رأسمالية مابعد الحرب العالمية صبغت المجتمعات بشخصية التاجر حيث تحول كل شئ إلي سلعة بما في ذلك الإنسان نفسه, طاقته الجسمانية, مهاراته ومعارفه, آراؤه ومشاعره, حتي ابتساماته. وقال فروم إن الشخصية الاجتماعية المثالية التي نريدها للمجتمع هي الشخصية الناضجة المنتجة والتي بلا أقنعة تحب وتبدع وتؤمن بأن وجودها أهم مما تمتلكه ولكن مجتمعا بتلك الشخصية لم يظهر. لاحظ أن فروم كتب ذلك قبل نصف قرن حين كانت الرأسمالية لاتزال مقيدة ببعض القيود والتنظيم. وهي الآن قد انفلتت من كل قيد أوتنظيم. وفي عام1956 نشر كتابه الرائع فن الحب أكد فيه أن الحياة لايمكن أن تمضي بغير خوف أو حب, وعليك انت أن تختار بينهما. وقال إن الحب يريح الإنسان من عناء السؤال الابدي.. ما معني الحياة؟ فإذا كنت تحب فلن تسأل أبدا هذا السؤال. تحدث فروم عن خمسة أنواع من الحب تتهددها جميعا الأخطار. فالحب الأخوي الذي يمثل الأساس للأنواع الأربعة الأخري يتراجع حين تتحول الكائنات البشرية إلي سلعة. وحب الذات الذي بدونه لا نعرف الحب للآخرين تدمره الأنانية التي تعلمك أنك غني بمقدار ما تملك وليس بمقدار ما تعطي. وحب الأم الذي تهدده مشاعر النرجسية والاستحواذ, وحب الله قد تراجع بسبب انتشار المفهوم الوثني للإله. أما الحب بين الجنسين فقد تكاثرت عليه الأخطار. فحين نهتم بالأرباح علي حساب كل قيمة إنسانية أخري, فإن الخطر يهدد الوجود الإنساني كله بما في ذلك الحب الذي يمنحنا معني الوجود. ومن الأخطاء التي لاتغتفر أن نضحي بالقيم الإنسانية لحساب اقتصاد قوي وصحيح. في كثير من الأحيان جاءت الثروة لكثير من العائلات بمشاكل التفكك والتوتر في العلاقات الاجتماعية التي ترتكز اساسا علي الحب الذي اضاعه السعي الحثيث نحو هدف واحد هو الثروة وجني الأرباح. مشكلة الحب عند الأغلبية من الناس أنهم مهتمون بالوسائل التي تمكنهم من الحصول علي حب الآخرين أكثر من اهتمامهم بتطوير قدرتهم هم علي الحب. الرجال يسعون للنجاح والقوة والثروة حتي يحظوا بالحب. والنساء يجرين وراء كل مايجعلهن أكثر جاذبية. يعتنين بأجسادهن وملابسهن حتي يجتذبن المحبين. وهما معا يحاولان تطوير أسلوب تعامل يمكن أن يوصف بالرقي, وقدرة علي التحدث بطريقة مثيرة للاهتمام, والظهور بمظهر التواضع. قلة قليلة هي التي تهتم بتطوير قدراتها هي علي أن تحب بدلا من أن تحظي به من الآخرين. إنها عملية تسويق لقدرات وممتلكات وصفات الإنسان في عالم الحب. والثقافة المعاصرة تدعم هذا الاتجاه حين ترتكز علي إشباع رغبة الإنسان في الشراء والصفقات التي تحقق منفعة متبادلة. ويري فروم أن الحب فن يتطلب معرفة وجهدا وليس شعورا بالسعادة يقع فيه الإنسان بالمصادفة. فالمصادفة لاتصنع حبا دائما. مازلنا في المجتمع المصري نحتمي بالكثير من العلاقات الاجتماعية الدافئة التي لاتخضع تماما لآليات عصر العولمة. وهي تعبر عن نفسها في الأزمات والكوارث التي تصيب البعض منا. فلا يزال التكافل الاجتماعي سندا قويا يجعل الحياة ممكنة. ولكن تلك العلاقات تتهددها الأخطار بزحف قيم العولمة شيئا فشيئا, ولدينا مؤشرات كثيرة علي ذلك في حياتنا الاجتماعية. فالكثيرون منا يتمنون زيادة عدد المليونيرات في المجتمع فهو دليل عافية اقتصادية ولكن كما يقول نيل كلارك إن لدي كل المجتمعات العدد الكافي من صانعي الأرباح وما نتمناه أن يقرأ فقط خمسمائة من السياسيين كتاب فن الحب للفيلسوف الألماني إريك فروم. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين