لم يبالغ المؤلف كرم النجار حينما وصفه بأنه «أثقف مثقفى مهنته» نور الشريف الذى قدم ما يقرب من 18 عرضا مسرحيا كان يخفى وراء كل دور يلعبه قصصا فى عشق الكلمة ومقاصدها ودلالاتها والتحاور مع مؤلف كل عمل للتأكد مما فهمه من معان بين السطور فتنبض شخصياته بالحياة فرحا وألما.. ولم يتردد جلال الشرقاوى بأن يصفه بأنه أنبل تلاميذه وأجدرهم على ضبط إيقاع اى عمل فى غياب المخرج.. نور الشريف خلف الستار موسوعة متنقلة تمنح كل من حولها عمقا ورصانة. تذكر المخرج الكبير جلال الشرقاوى تفاصيل علاقته بنور الشريف بدءا من قاعات المحاضرات بمعهد المسرح قائلا: كان من بين طلاب الدفعة الثانية التى اسهمت فى تخرجها وقدم مشروعين للتخرج، الأول «بيكيت.. شرف الله» لجون أنوى وأدى فيها ببراعة دور الملك هنرى، والثانى «هاملت» وأشرف عليه في هذا المشروع الراحل نبيل الألفى.. كان نور طالبا مجدا لا يفارق المكتبة أبدا، حتى إننى فوجئت ذات مرة أن طلبت من دفعته بحثا عن مسرحية «بيكيت» أنه يقدم بحثا جيدا ولكنه لا يليق بالخلفية المعرفية التى كونتها عنه، فطلبت منه إعادة البحث، فجاء لى بعد يومين فقط ببحث عبارة عن وثيقة علمية فنية نادرة عن الكاتب والنص. وأضاف: فى مسرحية المليم بأربعة 1991 كنا نناقش قضية توظيف الأموال باعتبارها الجناح الاقتصادى للجماعة الإرهابية.. قرأ نور النص ووافق على دوره فورا وبلا أى شروط مادية حتى أنه وقّع لى على بياض ولم يتعد تعاقدنا أكثر من خمس دقائق.. وخلال البروفات كان نور نموذجا مشرفا جدا للممثل المحاور المطيع لتعليمات الإخراج، يحرص أثناءها على الحوارات والمناقشات المستمرة لاستيضاح طبيعة كل الشخصيات وليست شخصيته هو فقط.. ورغم أن عادتى فى كل مسرحية ألا أغادر المسرح كل ليلة لمنع أى مشكلات قد تنجم عن حساسية الممثلين مع بعضهم البعض، إلا أننى خلال تلك المسرحية لم أذهب للمسرح إلا نادرا لاطمئنانى بأن نور يقود الكواليس ويضبط إيقاع العمل بدقة وشرف وحب نادر بينه وبين زملائه. كنت فين يا على وحول مسرحية «كنت فين يا على» عام 1992 قال مخرجها عصام السيد: من النادر أن تجد مخرجا مسرحيا ينسى ذلك أمام مخرج زميل، ولكن نور كان يتصف بهذه الميزة ويستجيب تماما لتعليمات المخرج طالما اقتنع بها، وفى هذا العرض كان البعض ينتهز فرصة أنها قطاع خاص ويخرج على النص، ولم يعترض نور بل يظل صامتا حتى ينتهى زميله تماما من حواره، ولكن ذات ليلة غضب جدا لأن أحد الزملاء قال جملة تضر بمغزى العرض لدرجة أنه ثار بعدها وقال لى إنها آخر ليلة له فى العمل.. وفى ظهر اليوم التالى اتصل بى واعتذر بشدة لانفعاله وفسر ذلك بضرورة الحرص على معنى كل كلمة تقال والهدف منها حتى لا يُساء فهمها، وطلب منى فقط أن أنبه الزميل بعدم قول هذه الجملة مرة أخرى. وأضاف السيد: تناقشنا طويلا فى عمله بالكوميديا فكنت أرى فيه كوميديانا راقيا جدا ومتميزا كما أنه كانت لديه قدرة فائقة على تقليد الشخصيات المختلفة، ولكنه بعد حوارات طويلة صرح لى بأنه شخص خجول لا يستطيع أن يخوض هذا النوع من التمثيل فاحترمت رغبته. وفى مسرحيتى الأخيرة «بحلم يا مصر» التى افتتحنا بها المسرح القومى كان من المفترض ان يلعب نور دور رفاعة الطهطاوى وقد وافق بالفعل وأجرينا عدة اجتماعات للوقوف على طبيعة الشخصية ولكن حينما بدأ تصوير فيلمه الأخير «بتوقيت القاهرة» اخبرنى أنه شعر بالتعب نتيجة التصوير وأنه لهذا لن يستطيع التمثيل يوميا على المسرح، ولم يكتف بذلك، بل جلس معى يقدم ترشيحات للدور حتى تم الاستقرار على ان يؤدى على الحجار الدور كاملا بدلا من أدائه لشخصية الراوى الغنائى فقط وهو ما نجح فيه الحجار باقتدار. يا غولة عينك حمرا المؤلف كرم النجار صديق نور الشريف المقرب وصفه بأنه «أثقف مثقفى» مهنته على الإطلاق» بالذات فى البحث عن كيفية تطوير الأداء التمثيلى، فلم يفارقه الكتاب يوما، وقال: تستطيع أن تمسك أى كتاب قرأه نور من مكتبته بشكل عشوائى لتجد فى كل صفحة هوامش وملاحظات وتفسيرات تخص فهمه لهذا الكتاب واهميته وما إلى ذلك. وأضاف: علاقتى به تمتد إلى حقبة الستينيات وعملنا معا العديد من الإفلام والمسلسلات والمسرحيات المهمة، فمثلا فيلم الصرخة تسبب فى صدور قرار بعد عرضه بضرورة ترجمة اشارات الصم والبكم لدمجهم فى المجتمع.. وفى المسرح اخرج لى مسرحية «البرواز» فى الثقافة الجماهيرية اواخر الستينيات، وآخر تعاون مسرحى بيننا كان «يا غولة عينك حمرا» وأجزم أنه صاحب قاعدة شريفة فى التعامل مع النص، فلم يطلب يوما تغيير جملة دون أن تستحق التغيير ودون الرجوع لصاحبها، وأذكر اننا فى أحد الأعمال اعترف لى بخطئه فى الاستعانة بمخرج معين، لأنه لم يكن على المستوى الفنى المتوقع ورغم هذا لم يطلب تغييره وقال وقتها: «نحن مضطرون لقبول وجهة نظره حتى النهاية اولا لأنه خطؤنا.. وثانيا حتى لا تكون هناك أكثر من وجهة نظر تدمر العمل».. وتلك هى المدرسة الفرنسية التى تعتمد على أن الممثل اداة فى يد المخرج. وأضاف النجار: فى مسرحية «يا غولة عينك حمرا» تمثلت روعة المخرج حسن عبدالسلام فى قبول رغبة نور الشريف فى تقديم أكبر عدد ممكن من الوجوه الجديدة فى الأدوار المتاحة فى العرض، فأجرينا جلسات ثلاثية مع الوجوه الجديدة حتى تم الاستقرار على عدد منهم، وكان نور يأتى كل ليلة مبكرا عن موعده حتى يراجع الحوار معهم ليزيل منهم الرهبة ويمنحهم الثقة فى الوقوف أمامه. مسارح لندن وقال النجار: الحكايات عن نور لا تنتهى، فأذكر مثلا انه كان فى كل مرة يسافر فيها لندن لتصوير أى عمل تليفزيونى أو سينمائى يحرص على مشاهدة أحدث العروض المسرحية هناك وكنت أفاجأ بأنه على علم بما يعرض هناك أولا بأول وانه يقوم بحجز تذاكرها قبل سفره من القاهرة..أما المخرج كمال عيد فقال: لعب نور الشريف دور البطولة فى مسرحية روميو وجولييت التى أخرجتها عام 1965 وأداها باجتهاد شديد، نابع من كونه تلميذا صاحب قدرة فائقة على اختزان المعلومات خلال محاضراتى لدفعته بالمعهد، وله العديد من المواقف الإنسانية التى لا تنسى، منها مثلا أنه دفع حساب المستشفى الذى كان يعالج به الراحل نبيل الألفى دون أن يخبره أو يستأذنه فى ذلك، إيمانا منه بأستاذيته واعترافا بجميله عليه.. رحم الله نور الشريف وأدخله فسيح جناته.