لو كان الأديب الايطالي العالمي"لويجي بيرانديللو"(1867 1936م) قد قرأ الطبعة الأولي من كتاب"فلسفة الثورة، تأليف"محمد حسنين هيكل" والمنسوب تأليفه للرئيس الراحل"جمال عبد الناصر"، والتي تحتوي علي الخطأ المطبعي بالإشارة إلي مسرحيته الشهيرة"ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، ب"ست شخصيات تبحث عن ممثل"، لكانت رؤيته حيال فكرته التي أسس عليها مسرحيته قد تغيرت، من فكرته المتحيزة لقدرة الإنسان علي تغيير واقعه، بالبحث عن "مؤلف" لديه تلك القدرة الإبداعية علي تحدي الواقع، وتدبير النهاية المنطقية للشخصيات التي خلقها الواقع علي المسرح، إلي البحث عن "ممثل" لديه تلك القدرة علي تجسيد مأزق الإنسان مع واقعه، علي حد الخطأ المطبعي الوارد في "فلسفة الثورة المصرية"، ويتحول هذا الخطأ المطبعي، من فلسفة ثورة يوليو، إلي فلسفة ثورة يناير، إلي فلسفة الثورات عموماً، فالثورة تبحث شخصياتها دائماً عن مُخرج، ومخرج (بفتح الميم)، يمكنهم من الانتهاء المنطقي لأحداث مسرحيتهم. مسرح ميدان التحرير! فقد بدت شخصيات مسرحية ثورة يناير وكأنها قد تورطت بفعل المؤلف الذي نقلهم من الواقع إلي خشبة العرض المسرحي بميدان التحرير، فتحولت خطبهم من خطب حماسية لفعل الثوار، ومطالب الثورة، إلي عرضهم لمأساتهم أمام المخرج، وفي حضور الجمهور من عموم الشعب الجالس أمام شاشات البث الحصري يتابع العرض المسرحي، فقد اكتشف الممثلون للثورة أنهم غير متفقين فيما بينهم حول النص الذي خلقهم به المؤلف، ونفخ به الروح فيهم، كما اكتشفوا أنهم لا يجمعهم السعي نحو هدف مشترك، أكثر من وقوفهم فقط علي خشبة المسرح لأداء أي نص ممكن، فقد عاتبهم المخرج وهو ممسك بالنص في يده، بأن كل واحد منهم يحركه هدف خاص، مما يستحيل معه أن يوزع الحركة بينهم بالتساوي علي خشبة المسرح، فكل واحد منهم يقوم بأداء دوره بمبالغة شديدة من أجل جذب الانتباه إلي حالته الخاصة، مما حول النص الفريد الذي كتبه المؤلف للثورة إلي حوار مونولوجات، مما يحول دون وصول أفكار المؤلف إلي الجمهور، فتحول ميدان التحرير إلي مسرح لعرض واقع خيالي عبثي، اختفي فيه المؤلف بين مجاميع الكومبارس، والمخرج يقف حائراً حتي تواري في الكواليس، وباتت الأدوار موزعة حسب مقدرة كل ممثل علي دفع الآخر من علي خشبة المسرح، فبدت مسرحية الثورة في ميدان التحرير، وكأنها نفس المسرحية التي كتبها"بيرانديللو" ويعاد عرضها بمصر، بعد عرضها الأول في روما في العام 1921م، حتي سمع الجميع ثلاث دقات متتالية يوم 25يناير بميدان التحرير، مصاحبة لصوت جنزير الدبابات، ورفع الستار، وبدأ العرض المسرحي. الشخصية الأولي انبري من بين الجموع علي حين غفلة، قال البعض انه جاء من خلف الإضاءة، والبعض الآخر يقول انه كان مختبئاً خلف الملقن في"الكمبوشة"، وأصر العارفون ببواطن الأمور أنه المؤلف ظهر متنكراً، في اليونيفورم، والإكسسوارات، والحذاء اللامع، والوجه الحليق، عرفه الناس من زيه المميز بدوره في الرواية، ولكنهم اختلفوا حول اسمه، فقد دام التصفيق لظهوره علي خشبة المسرح طويلاً، حتي أصيب بالملل، وقرر بعد الانحناءات المتعددة لمجاملة الجمهور أن يدخل في النص مباشرة، ولكن دخوله كان علي عكس ما توقعه الممثلون زملائه في العرض، حتي المخرج نفسه لم يتوقعه، فقد وقف منزوياً علي خشبة المسرح متجاهلاً أحداث العرض الأولي، والتي وصلت إلي هذا الحد من العنف بين الممثلين فور رفع الستار، وقف يحاور احد الكومبارس هامساً بعيدا عن الأضواء، ساد الصمت بين الجمهور محاولين استرقاق السمع إلا أنهم فشلوا، وظلت الأنظار معلقة به، وعندما هدأ الممثلون من أداء مونولوجاتهم الافتتاحية، وعند لحظة من لحظات" اللونج إير" في العرض، رفع صوته وتصدر بؤرة المسرح، ووقف علي أعلي"برتكابل"، معلناً انه بطل العرض، وأمر ملوحاً بيده التي تحمل نسخته من النص المسرحي الجميع بمغادرة خشبة المسرح، وساد الصمت، ثم أخذ يمر ببصره علي وجوه الجماهير، فسرت الهمهمات بين المشاهدين، وتأهب بعضهم لمغادرة مقاعدهم، هنا حدث ما لم يكن يتوقعه المؤلف"بيرانديللي" لنص مسرحيته، حيث انقلب الواقع علي نفسه، وباتت بقية شخصياته دائرة بسبب دور هذه الشخصية، بين الوجود والعدم في لحظة طغيان أحد الممثلين. الشخصية الثانية كان ظهورها محظوراً من قبل في أي عرض مسرحي، لأن صاحبها يتمتع بطاقة كبيرة علي سحب الأضواء من بقية الممثلين بما يملكه من قدرة علي الخروج عن النص بما لديه من محفوظات لنصوص مسرحيات قديمة، غير مناسبة لزمن العرض المعاصر، ولكنها تمنحه السُكسيه، فكان ظهوره يحدث الانقسام في مقاعد المتفرجين، وكثيراً ما تسبب في حدوث مشاحنات، وتعديات، حتي سالت الدماء بين الجمهور في العروض المسرحية التي يشترك فيها، فصار محظوراً، إلي أن منحته مسرحية التحرير الفرصة لمعاودة الظهور مرة أخري، وعلي الرغم من التزامه بالنص، إلا أن الجمهور في الفصل الثاني، اكتشف انه كان هو الكومبارس الذي انزوت به الشخصية الأولي في بداية العرض، مما جعل بقية الشخصيات الأربع الباقية تنظر إليه بعين الريبة، في كل جملة يقولها، وكل حركة يؤديها، ورغم تأكيداته في الكواليس انه ملتزم بالنص، إلا أن الخلافات لم تنقطع بسبب مبالغته في أدائه، وانه ينتهز الفرص المتاحة دائماً بالتأثير علي المتفرجين بماكياجه، ولحيته المستعارة. الشخصية الثالثة كان المخرج معترضاً علي اشتراك هذه الشخصية في العرض، لأنها خرجت لتوها من السجن، وأنها لديها خلافات قديمة مع بقية الممثلين، مما قد يحول دون أداء الديالوجات كما رسمها المؤلف، فكثيراً ما قامت هذه الشخصية بالتسبب في توقف العرض، نتيجة قيامها بترك خشبة المسرح، والنزول إلي صالة الجمهور والاعتداء علي احدهم بالضرب القاتل بسبب تعليق قاله لم يعجبه، وتسبب يوماً في موت أحد المؤلفين بأزمة قلبية، ليلة عرضه الأولي لمسرحيته، وكان السبب في الحضور الدائم لرجال الشرطة لجميع العروض التي يشترك فيها، لأنها دائماً تنتهي بالدماء السائلة علي خشبة المسرح، وعلي مقاعد المتفرجين، وان هذه الشخصية كانت السبب في غلق المسرح لمدة ثلاثين عاماً متصلة بسبب آخر خناقة ارتكبها، وتشميعه بالشمع الأحمر، وتحول المسرح إلي وكر يختبئ فيه اللصوص، من النشالين، وقطاع الطرق، والهجامين. الشخصية الرابعة كان كومبارس طوال عمره المسرحي، إلا أن نص مسرحية التحرير قد حوله إلي بطل، يبحث مع زملائه الممثلين عن نهاية معقولة للمسرحية التي بين أيديهم، فكان في الماضي دوبلير الأبطال، فيتم ضربه بدلاً منهم، ويقوم بأداء المخاطر التي يتجنبها الأبطال، وله الحضور الاساسي مع المجاميع، وما كان يتصور احد انه سيكون من الممثلين للأدوار الأولي، فقد كان مهمشاً، حتي انه فشل في الانضمام إلي أي نقابة، فكانت مسرحية التحرير هي الفرصة السانحة له لكي يثبت وجوده، وتتحول طلباته الخاصة إلي نص مسرحي يعرض علي الجماهير، وكان يؤمن أن أدواره الثانوية التي سبق وأداها، هي التي فرضت علي المؤلف اختياره ، فوثق في نفسه، متجاوزاً مساحة دوره المكتوب في النص. الشخصية الخامسة هو شخصية نادراً ما ظهرت بمفردها علي المسرح بدون زملائها الكومبارس الذين يقومون معاً بدورهم في ملئ الفراغ الموجود في النص المسرحي، وفي جميع عروضه السابقة كان دائما يظهر فيها ملاصقاً للبطل، أو جالساً تحت قدميه، أو يقوم بدور الخادم، أو السكرتير الفني، إلا انه ظهر في عرض مسرحية التحرير، يؤدي أكثر من شخصية، فاستطاع المؤلف عبره تمرير أفكاره علي لسانه، لكي يصنع منه المفتاح الذي يبرر به أفكاره المثالية للجمهور، فهو مرة يمنحه المؤلف حواراً مؤيداً، ومره يجعله معارضاً، وأثناء ذلك يكون الهمس دائراً حوله في الكواليس، والغمز، واللمز، حتي وصفته احدي الشخصيات الأخري بأنه الممثل المتحول، فقد خلق المؤلف شخصيته لحتمية الواقع الموجود، والذي يلزمه بوجود بهلوان ضمن شخصيات العرض لصنفرة الإفيهات بين الشخصيات، لإضحاك المتفرجين. الشخصية السادسة هذه هي أول مرة يسند إليه دور في تاريخ العروض المسرحية، فهو من الهواة، وأصغر الشخصيات سناً علي مسرح ميدان التحرير، ولان خبرته في الأداء المسرحي محدودة، ولا تصل لخبرة بقية الشخصيات في العرض، فقد منحه المؤلف الفرصة لارتجال مونولوجه كيفما يشاء، وكان المخرج دائماً ما يراقبه، ويحذره من إطالة حواراته مع احدي الشخصيات بعينها، حتي لا يفسد العرض، فهو الممثل الحر الوحيد، ورغم هذه الأهمية التي منحت لهذه الشخصية، إلا أن بقية الشخصيات اعتبرتها سبب مأساة العرض، وعدم تمكينهم، والمؤلف من أن يجدوا نهاية مناسبة ترضي الجمهور، لان هذه الشخصية تتفاعل بطريقة الهواة مع الجماهير، فسببوا الضرر لبقية الشخصيات المحترفة الأخري، والتي يمكنها المساعدة بأدائها المحترف في إنهاء العرض، ولكن كلما اقترب العرض من الانتهاء وإسدال الستار، قامت هذه الشخصية بافتعال موقف جديد، جعلت المشاهدين يتشبثون بمقاعدهم، وتخرج بقية الشخصيات إلي المخرج معبرة عن غضبها من طول مدة العرض، بسبب هذه الحرية التي منحها المؤلف لهذه الشخصية الهاوية لأول مرة في حياتها لتتواجد فيها علي المسرح. مسرحية الواقع كانت الست شخصيات المشتركة في مسرحية ثورة يناير علي الترتيب هي: الجيش، والإخوان المسلمين، والسلفيون، وجماعات الضغط المختلفة، والأحزاب السياسية، وشباب الثورة، وفي الواقع هذه هي القوي المؤثرة في ثورة يناير، والتي نجحت جميعها في التعبير عن الواقع حسب رؤية كل شخصية، فبات أمام المخرج ستة رؤي للعرض المسرحي تتنافس فيما بينها، فضلاً عن تنافس الشخصيات في أداء دورها من منطلقات شخصية، فما كان من المخرج إلا أن أعادهم إلي المؤلف لكي يجد لهم مخرجاً من النص الذي ورطهم فيه الواقع، هذا المؤلف الذي عجز عن إيصال شخصياته بحكاياتهم إلي النهاية التي يسدل عليها المخرج الستار، إلا أن المؤلف، أصر علي موقفه في أن المشكلة هي جدل شخصياته مع الواقع أمام الجمهور الذي بات له حضور كبير في العرض المسرحي، فلو لم يكن هذا الحضور الجماهيري لتمكن من إنهاء العرض، إلا أن الجماهير كانت تصفق عند ظهور كل شخصية بنفس الحماس، فيزداد ارتباك المؤلف، وخاصة بعدما سري الهمس في الكواليس بين الشخصيات، حيث ينسب كل واحد منهم إلي نفسه انه السبب في المفارقة التي كشفت الواقع، تلك المفارقة التي دفعت المؤلف لكي يكتب المسرحية، فقام كل من المخرج، والمؤلف، بجمع الست شخصيات أمامهما، وعرضا عليهم التفاوض لإنهاء العرض، إلا أنهما وجدا أن كل منهم سينهيها علي حسب مونولوجه الخاص، وسرت الجلبة بين الممثلين في الكواليس، وقبل أن تعيد الشخصية الأولي قولها بإخلاء المسرح ، امسك المؤلف بيده، واخبره بأنه قرر أن يعيد بناء شخصيته هو شخصياً، فهو الذي سينهي المسرحية، ولكن مع بعض التعديلات التي يجب أن يستجيب لها، في الملابس، والأداء، وتحت شروط المخرج، وان يختفي من المشهد عند الوقت المحدد كما هو مقرر في النص، وإلا فان الجمهور هو الذي سيتولي إنهاء العرض، وان حدث ذلك فان العرض سينتهي بتدمير المسرح نفسه، وسيتم تشميعه مرة أخري، لان الست شخصيات التي تبحث عن المؤلف لم تنجح في إنهاء العرض، فما بالنا عندما تبحث كل شخصية من الجمهور عن مؤلف، ستتحول المسرحية من مسرحية للواقع، إلي مسرحية درامية عبثية دامية. دائما فلسفة الثورة تبدأ بمسرحية مكونة من شخصيات تبحث عن ممثلين، إلي مسرحية تبحث لهؤلاء الممثلين عن مؤلف، هذا المؤلف يكون لديه القدرة علي أن يقنع شخصياته التي ابتدعها أن تقتنع بانتهاء دورها في العرض، وانه يستحيل أن يستمر عرض ثورة التحرير إلي ما لا نهاية، فهناك عروض أخري أمتع تنتظر الجمهور.