لا أدري ما هي عدد المرات التي أصدر فيها مقالي بضرورات إدارة المرحلة الانتقالية وخطورة هذه المرحلة التي ناديت مرارا وتكرارا أن يؤسس علم لإدارة هذه المراحل خاصة فيما بعد قيام الثورات. ولا أدري كم مرة ذكرت أن صناعة التوافق فن وعلم تتحقق فيهما عناصر الوعي الرشيد وقدرات السعي السديد, وأن معاني الصناعة تتطلب أصول فهم هذه الجماعة, في ثوبها الوطني وفي تشكيلاتها السياسية, وأن حركة الجماعة نحو جامعية حقيقية إنما هو مسلك يجب أن يكون محددا واضحا, جليا بينا, فاعلا ناجزا, تقوم أولي أبجدياتها علي قاعدة من إدارة التعدد والتنوع والاختلاف أيا كانت تجليات هذا جميعا, لأن هذه الأمور إنما تكون بمثابة مختبرات وتجارب ضمن معامل تجريبية للوطن والمواطنة, تؤكد معناها وترسخ مبناها وتسدد مقاصدها ومبتغاها. وظل الأمر يدور ضمن خماسية ظللت أدرسها وأؤكد عناصرها أسميتها' خماسية الاختلاف' تفعل فعلها في الثقافي والمجتمعي والسياسي علي حد سواء, فهي أقرب إلي منظومة قيم لا يجوز التفريط بها أو الغفلة عنها أو إهمالها, لأن لذلك آثارا ومآلات علي خريطة المجتمع وتكويناتها وحقيقة الثورة ومكتسباتها. الاختلاف سنة كونية ماضية, والتعدد حقيقة مجتمعية قائمة, والتعايش ضرورة حياتية حامية, والتعارف في الاجتماع عملية أساسية آمنة, والحوار آلية داعمة. وبذلك يتحقق في الاجتماع كل عناصر مرجعيته وشرعيته وجامعيته وتجدده ودافعيته وفي النهاية تتوج أصول تأثيره ونهوضه وفاعليته. درس لا يحتاج منا إلي تكرار, وهو يتعدي مرحلة الخيار, ويجب أن يرعاه كل قرار, ويشكل محددات المسار, لا نقع فيه تحت ضغط جني ثمار, أو افتعال شجار, الا أن السياسة والاجتماع يقرران ذلك من كل طريق وبكل طريقة, وهو إن كان في كل زمان واجبا فإنه في مراحل الانتقال أوجب. فالاجتماع أرحب من أن نضيق فيه علي نفوسنا, والعمل في هذا الطريق أوجب لا تماري فيه عقولنا. إن ثورة25 يناير غمارا وثمارا هدفت ضمن ما هدفت إلي تأسيس عقد سياسي ومجتمعي جديد, يتواكب مع أصولها ويستلهم جوهرها وروحها, ويتناسب مع مقاصدها ومكتسباتها وغاياتها. تخرج من مؤسسات' كأن' الذي أراد النظام البائد أن يغطي بها استبداده ويمكن من خلالها لفساده, ويحقق بها مصالحه الأنانية ومراده. إنها مؤسسات رسخت للإذعان أركانه, ولهندسة الموافقة والرضا الكاذب زبانيته وأعوانه. والدستور هو ترجمة حقيقية لهذا التعاقد السياسي والمجتمعي الجديد, بل هو العنوان الأبرز في صناعة الجامعية والفاعلية, والجمعية التأسيسية هي المختبر الحقيقي تشكيلا وتكوينا وتمثيلا في إدارة المجتمعات والتعامل مع الاختلافات وتمثيل التنوعات. وسعة المجتمعات إنما تتمثل في حكمة عقولها واتزان سلوكها ووضوح مساراتها: لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق قانون المواطنة والوطن والوطنية لأي جماعة حقيقية. المشهد يؤشر في الأسبوعين الأخيرين علي تجليات كلها تشير إلي عكس ذلك المضمون في اتجاه يعاكس تلك القيم ويخصم منها في الإجماع والاجتماع, في الثقافة والسياسة والمجتمع. ها هي خطابات التراشق أوضح من أن نسردها أو نشير إلي بعض وقائعها. وها هي الانسحابات والتصريحات تتري من الأفراد والجماعات والتكوينات والمؤسسات, وها هي الاحتجاجات والتظاهرات يعلو صوتها وتزيد مطالبها. لتمارس في مسلسل الأزمات أو التأزيم فصلا جديدا لا تتحمله ثورة أجهدت طاقاتها عن عمد, وأجهضت مطالبها لقصد أو بدون قصد, وغامت فيها الرؤية حتي إن من يحكم أو يتحكم بالأمر وتسييره هو إلي الثورة المضادة أقرب وللدولة العميقة وترسيخ مصالحها أرغب. يا أهل مصر الوطن والوطنية, المواطنة والجامعية, ليس هكذا تدار الاختلافات أو تواجه التحديات في الجماعة الوطنية, وليس علي هذه الشاكلة أو تلك المكانة أن نعبر عن تأسيس العقد السياسي والمجتمعي في مصر الوطن, في مصر الثورة, وأنادي علي كل كائن من كان, وعلي كل مواطن أو إنسان, وعلي كل صاحب سلطة أو سلطان, وعلي كل فصيل أو كيان' دستور يا أسيادنا'. إن خطاب الاستقطاب حول الجمعية التأسيسية للدستور هو مقدمة واستدعاء لخطاب استقطاب أوسع, حول القضايا المحورية التي يمكن أن يتضمنها الدستور, وتحري الدقة في هندسة الصياغة الجماعية والمجتمعية لجمعية الدستور هي المقدمات اللازمات للصياغة الفنية الوطنية للدستور الذي يوضع لشأن جماعة وطنية تمتد آجالها وأجيالها ومجالاتها' ضعوا دستوركم لزمانكم وزمان غير زمانكم' حكمة مقضية, وقاعدة مرعية, وتعاقدات ظاهرة أو كامنة مرضية لا منسية. المزيد من مقالات د.سيف الدين عبد الفتاح