إن الذي يريد أن يفهم مسيرة الإنسانية, لن يستطيع أن يدرك ذلك بغير الاطلاع والتعمق في دراسة الحضارة الإسلامية الراقية, ليس لأنها مثل حلقة مهمة من حلقات التاريخ. وليس لمجرد أنها ربطت الحضارات القديمة بالحضارات الحديثة فقط, ولكن لأن إسهامات المسلمين في مسيرة الإنسانية من الكثرة والأهمية بمكان, بحيث إننا لا يمكن أن نستوعب ما وصلت إليه البشرية من تقدم في أي مجال من مجالات الحياة إلا بدراسة الحضارة الإسلامية, بكل خصائصها ودقائقها, منذ عهد النبوة وإلي زماننا الآن. إنها فترة باهرة حقا في تاريخ البشرية! وتزداد أهمية الكتابة في هذا الموضوع مع ازدياد الهجمة الشرسة الموجهة إلي الإسلام والمسلمين, ومن بنود هذه الهجمة وآلياتها اتهام المسلمين بالتخلف والرجعية, ووصمهم بالجمود والهمجية, وادعاء أن العنف والإرهاب من صميم أخلاقهم وصفاتهم.. ويقف كثير من المسلمين أمام هذه الاتهامات مكتوفي الأيدي, معقودي اللسان, لا يستطيعون الرد بما يقنع, أو الدفاع بما يلجم, وهذا السكوت في معظمه بسبب جهلنا الشديد بأصولنا وتاريخنا ومناهجنا وحضارتنا. وفوق الجهل الذي يكبل عقولنا هناك الإحباط واليأس, اللذان يسيطران علي مشاعر المسلمين, نتيجة عوامل شتي تمر بها الأمة في زماننا الراهن, فلاشك أن متابعة خريطة العالم الإسلامي السياسية تثير في القلب الكثير من الأحزان, كما أن الحالة العلمية والثقافية والاقتصادية بل والأخلاقية تعاني من تخلف شديد لا يتنساب مع أمة كريمة كأمة الإسلام, وهذا يترك في النفس آثارا سلبية تدفعها إلي قنوط غير مقبول, وفتور لا يليق. في هذه الظروف يتحتم علينا أن نعود إلي أصولنا, وأن نقرأ تاريخنا, وأن نعرف أسباب سيادتنا وريادتنا, فإنه لن ينصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها, ولهذا فإننا لا ندرس هذا التاريخ, ولا نتفقه في هذه الحضارة لمجرد المعرفة النظرية, أو للاستخدام في المناظرات الأكاديمية, إنما نهدف إلي إعادة البناء, وإلي ترميم الصدع, وإلي إعادة المسلمين إلي المسار الصحيح, كما نهدف إلي تعريف العالم بدورنا في مسيرة الإنسانية, وبفضلنا في حياة البشرية, ليس من قبيل المن والكبر, وإنما إسناد الحق إلي أهله, وكذلك الدعوة إلي خير دين بني خير أمة أخرجت للناس. ولعل من أكثر الأمور صعوبة في هذا الموضوع هو الاختلاف البين بين المفكرين حول تعريف الحضارة, فالحضارة في تعريف الأولين لم تكن تعني سوي السكني في الحضر, والحضر عندهم هو عكس البادية, وذلك كما نص عليه ابن منظور مثلا فقال:الحضارة هي الإقامة في الحضر, والحاضرة خلاف البادية. لكن تطور المعني بعد لك ليشمل ما تستلزمه حياة الإنسان في الحضر من تطور في الصناعة, والعلوم, والفنون, والقوانين.. وغير ذلك, وهي أمور قد يعيش الإنسان بدونها في البادية, ولكنها تجمل حياته في الحضر, بمعني أنها ليست من ضروريات الحياة في هذا التعريف, وهذا ما جعل ابن خلدون يعرف الحضارة بأنها: أحوال عادية زائدة علي الضروري من أحوال العمران, زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه, وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر. ولعل أصل كلمة الحضارة في المصطلحات الأوروبية تعود إلي نفس المنطلق, حيث إن كلمة الحضارة في الإنجليزيةCIVILIZATION تأتي من الكلمة اللاتينيةCIVIS, والتي تعني المدني أو المواطن في المدينة, فهي تعني عندهم الذين يسكنون في المدينة, ثم تطورت عندهم كما تطورت عند غيرهم لتشمل أحوال الناس في داخل المدينة, ولذلك كثيرا ما تترادف عند المفكرين كلمة الحضارة مع كلمة المدنية, مع فروق طفيفة بين المعنيين. لكن هذا الأصل اللغوي لم يعبر عن آراء المفكرين والفلاسفة بشكل يجتمعون عليه, بل كانت لهم اتجاهات كثيرة متباينة, لا تعبر عن اختلاف لغوي فقط, وإنما تعبر عن اختلاف فكري, ومنهجي, وأخلاقي, بل وعقائدي. فمن المفكرين من نظر إلي الإنسان نفسه, واعتبر أن رقي الإنسان في سلوكه وأخلاقه ومعاملاته هو الحضارة, وهو اتجاه جميل لاشك, يقدر قيمة الإنسان ويرفعه فوق المادة, ويهتم بالفكر والعاطفة معا, ومن هؤلاء مالك بن نبي, الذي يعرف الحضارة بقوله: هي البحث الفكري, والبحث الروحي. وقبله نحا الفكر الفرنسي الكسيس كاريل منحني مشابها, فعرف الحضارة بأنها: الأبحاث العقلية والروحية, والعلوم الخادمة لسعادة الإنسان النفسية والخلقية والإنسانية. ومن المفكرين من يعتبر الحضارة هي الإنتاج الذي يقدمه البشر لخدمة الإنسان, فهم لا ينظرون إلي داخل الإنسان كأصحاب الرؤية السابقة, إنما ينظرون إلي ما أنتجه هذا الإنسان في مجتمعه في كل المجالات, أو يهتمون بجانب علي حساب جانب آخر, فالدكتور حسين مؤنس مثلا يري أن الحضارة هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان, لتحسين ظروف حياته, سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلي تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود, وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية. فهو ينظر نظرة شاملة إلي جهد الإنسان وإنتاجه, بينما يخصص المؤرخ الأمريكي ول ديورانت الإنتاج البشري في اتجاه الثقافة والفكر, ويجعل بقية العوامل في الحياة مؤدية إلي هذا الإنتاج. وهناك من ينظر نظرة مادية إلي الحضارة, ويعتبرها من الأمور الترفيهية التي تؤدي إلي راحة الإنسان وسهولة حياته, ولا ينظر بذلك إلي داخل الإنسان, ولا ينظر كذلك إلي المعتقدات الفكرية, ولا إلي الأخلاق والمبادئ, وهؤلاء أحد صنفين:إما عشاق للمادة, مغرقون في انكار المبادئ والقيم كأحد العوالم الرئيسية في تقييم أمة أو مجتمع, وهؤلاء هم معظم اللادينيين, ومن هذا الصنف من يغرق في التمادي في إنكار الأخلاق, مثل الفيلسوف الألماني نيتشه, الذي يقول: إن الأخلاق ليست إلا اختراع الضعفاء, لكي يقيدوا بها سلطان الأقوياء, فلتكن حربا علي الأخلاق!. أما الصنف الآخر من الماديين, فهم كما يبدو من كتاباتهم لم يقصدوا التقليل من شأن الأخلاق, إنما اعتبروا الحضارة لفظا ماديا بحتا, لا علاقة له بأخلاقيات الإنسان, وهذا يبدو واضحا في كلمات ابن خلدون مثلا حيث يقول:الحضارة هي التفنن في الترف, واستجادة أحواله, والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصناف وسائر فنونه, من الصنائع المهيأة للمطابخ أو الملابس, أو المباني, أو الفرش, أو الأواني, ولسائر أحوال المنزل, ويلزم هذا التأنق صناعات كثيرة. ولاريب أن ابن خلدون لا يقصد استبعاد الأخلاق والقيم من الحضارة, حيث إنه يثبت لها دورا أكيدا في بناء الأمم, ولكن كما ذكرت فإنه كان يعتبر لفظة الحضارة لفظة مجردة تصف الحياة في الحضر, وما يستتبعها من تطور. وعلي هذا فكما رأينا هناك تعريفات كثيرة للحضارة, وهذا يعني أن الأمر ليس متفقا عليه بين العلماء والمفكرين, ولعل هذا يرجع إلي أن الكلمة جديدة مستحدثة, ومن ثم فهي تحمل معاني مختلفة عند كل مفكر, كما يرجع أيضا إلي اختلاف المناهج والأيدلوجيات لكل مدرسة من مدارس الفكر الإنساني. كل هذه التعريفات المتناقضة أو المتكاملة تجعل الحديث عن الحضارة أمرا صعبا, يحتاج إلي اعمال فكر من كل المشاركين بالبحث فيها, أما حضارتنا الإسلامية, فحضارة فريدة علي المستوي الفكري والمادي والتعبدي, وهذا ما سنتناوله في مقالنا التالي إن شاء الله.