اليوم.. جامعة الأزهر تستقبل طلابها بالعام الدراسي الجديد    أول تعليق لنتنياهو على مزاعم إسرائيلية بمحاولة اغتيال حسن نصر الله    نحو 30 غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت خلال ساعتين    آخر تطورات لبنان.. الاحتلال يشن 21 غارة على بيروت وحزب الله يقصف شمال إسرائيل    «أنا وكيله».. تعليق طريف دونجا على عرض تركي آل الشيخ ل شيكابالا (فيديو)    التحويلات المرورية الجديدة بعد غلق الطريق الدائري من المنيب تجاه وصلة المريوطية    طعنة نافذة تُنهي حياة شاب وإصابة شقيقه بسبب خلافات الجيرة بالغربية    مواقف مؤثرة بين إسماعيل فرغلي وزوجته الراحلة.. أبكته على الهواء    بحضور مستشار رئيس الجمهورية.. ختام معسكر عين شمس تبدع باختلاف    وزير الخارجية: تهجير الفلسطينيين خط أحمر ولن نسمح بحدوثه    درجات الحرارة في مدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى بالقاهرة 33    «مرفق الكهرباء» ينشر نصائحًا لترشيد استهلاك الثلاجة والمكواة.. تعرف عليها    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    ضياء الدين داوود: لا يوجد مصلحة لأحد بخروج قانون الإجراءات الجنائية منقوص    المتحف المصري الكبير نموذج لترشيد الاستهلاك وتحقيق الاستدامة    الحكومة تستثمر في «رأس بناس» وأخواتها.. وطرح 4 ل 5 مناطق بساحل البحر الأحمر    إيران تزامنا مع أنباء اغتيال حسن نصر الله: الاغتيالات لن تحل مشكلة إسرائيل    حكايات| «سرج».. قصة حب مروة والخيل    تعرف على آخر موعد للتقديم في وظائف الهيئة العامة للكتاب    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    عاجل - "الصحة" تشدد على مكافحة العدوى في المدارس لضمان بيئة تعليمية آمنة    وزير الخارجية: الاحتلال يستخدم التجويع والحصار كسلاح ضد الفلسطينيين لتدمير غزة وطرد أهلها    المثلوثي: ركلة الجزاء كانت اللحظة الأصعب.. ونعد جمهور الزمالك بمزيد من الألقاب    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    صحة الإسكندرية تشارك في ماراثون الاحتفال باليوم العالمي للصم والبكم    حياة كريمة توزع 3 ألاف كرتونة مواد غذائية للأولى بالرعاية بكفر الشيخ    عمر جابر: تفاجأنا باحتساب ركلة الجزاء.. والسوبر شهد تفاصيل صغيرة عديدة    مصراوي يكشف تفاصيل إصابة محمد هاني    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال لاعبي الزمالك بالسوبر.. بيلينجهام وزيدان.. تحية الونش للجماهير    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    الوراق على صفيح ساخن..ودعوات للتظاهر لفك حصارها الأمني    نائب محافظ قنا يتابع تنفيذ أنشطة مبادرة «بداية جديدة» لبناء الإنسان بقرية بخانس.. صور    تجديد حبس عاطل سرق عقارًا تحت الإنشاء ب15 مايو    التصريح بدفن جثمان طفل سقط من أعلى سيارة نقل بحلوان    بدءاً من اليوم.. غلق كلي للطريق الدائري من المنيب اتجاه المريوطية لمدة شهر    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 28 سبتمبر 2024    أمريكا تستنفر قواتها في الشرق الأوسط وتؤمن سفارتها بدول المنطقة    فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية    أحمد العوضي يكشف حقيقة تعرضه لأزمة صحية    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    «عودة أسياد أفريقيا ولسه».. أشرف زكي يحتفل بفوز الزمالك بالسوبر الإفريقي    "الصحة اللبنانية": ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت إلى 6 قتلى و91 مصابا    استعد لتغيير ساعتك.. رسميا موعد تطبيق التوقيت الشتوي 2024 في مصر وانتهاء الصيفي    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    جوميز ثاني مدرب برتغالي يتوج بكأس السوبر الأفريقي عبر التاريخ    جوميز: استحقينا التتويج بكأس السوبر الإفريقي.. وكنا الطرف الأفضل أمام الأهلي    5 نعوش في جنازة واحدة.. تشييع جثامين ضحايا حادث صحراوي سوهاج - فيديو وصور    "المشاط" تختتم زيارتها لنيويورك بلقاء وزير التنمية الدولية الكندي ورئيس مرفق السيولة والاستدامة    الشروع في قتل شاب بمنشأة القناطر    «زى النهارده».. وفاة الزعيم عبدالناصر 28 سبتمبر 1970    حظك اليوم.. توقعات الأبراج الفلكية اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تحرك جديد.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    الأزهر للفتوى: معتقد الأب والأم بضرورة تربية الأبناء مثلما تربوا خلل جسيم في التربية    كل ما تحتاج معرفته عن حكم الجمع والقصر في الصلاة للمسافر (فيديو)    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترسانة الإسكندرية

بمناسبة اعتزام الحكومة المصرية حاليا تطوير ترسانة الإسكندرية، علينا أن نعرف كيف استطاع العمال المصريون بإرادة محمد علي (1805 – 1848م) وبالخبرة الأجنبية أن ينشئوا ترسانة على أحدث النظم الأوربية ، استطاعت أن تكون أسطولا يعتبر من الأساطيل الهامة في شرق البحر المتوسط في منتصف القرن التاسع عشر . إ
ن هذه التجربة الرائدة تمنحنا الأمل في أن تكون الترسانة الجديدة مثلا أعلى في التنظيم والإدارة وليس هذا ببعيد عن إرادة المصريين .
سجل الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر في القرن التاسع عشر ، إنجازات محمد علي في الإسكندرية ، وقد اعتبره الرحالة الفرنسي أمبير Ampet المؤسس الثاني للمدينة بعد الإسكندر Alexander ( 356 – 323 ق.م) مؤسسها الأول .
وكان إنشاء ترسانة الإسكندرية من أهم الأعمال العظيمة التي لفتت نظر الرحالة، أولا : لأنها استطاعت أن تبني لمصر قوة بحرية كبيرة في سنوات معدودة جعلتها تحتل المركز الرابع بين القوى البحرية الكبرى في البحر المتوسط .
ثانيا : لأنه بإنشاء الترسانة – وحفر ترعة المحمودية – عادت للإسكندرية مكانتها التجارية العظيمة التي كانت قد فقدتها بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح 1498م ، ولم تتوقف الحركة التجارية في المدينة منذ ذلك الحين وحتى وقتنا هذا .
وقبل الحديث عن الترسانة من المهم إلقاء نظرة سريعة على أحوال البحرية المصرية قبل مجئ محمد علي للحكم .
اهتم سلاطين المماليك ( 1382 – 1516م) بعض الشىء بالبحرية ، ولكن تحول التجارة عن طريق مصر إلى رأس الرجاء الصالح أصاب مصر في الصميم ، إذ فقدت موردا ماليا كبيرا – في صورة مكوس جمركية – كانت البلاد تعتمد عليه كثيرا ، مما أدى لإصابتها بانهيار اقتصادي خطير انعكس على كل نواحي الحياة بما فيها الناحية الحربية . ولذلك لم يلعب الأسطول المملوكي أي دور في معركة الاستيلاء على مصر من قِبل العثمانيين عام 1517م .
واستقرت الأمور للعثمانيين في مصر ، وزاد اهتمامهم بالشئون البحرية ، إلا أنهم وضعوا تنظيما خاصا لإدارة الثغور المصرية حيث ُوضعت كل من الإسكندرية ورشيد ودمياط والسويس تحت إشراف أحد القبودانات العثمانيين ، الذي يخضع مباشرة للسلطان العثماني . أي أن السواحل المصرية الشمالية كانت خارجة عن سيطرة والي مصر .
ومع أواخر القرن الثامن عشر بدأ الضعف والانحلال يتطرق للبحرية في مصر نظرا للاضطرابات التي سادت البلاد ، إلى الحد الذي لم تجد الحملة الفرنسية في ثغر الإسكندرية حينما جاءت إلى مصر عام 1798م سوى ثلاث سفن حربية عثمانية ، لم تلبث أن انسحبت بعيدا عن مجرى الأحداث وكأن الأمر لا يعنيها في شئ .
وعندما تولى محمد علي حكم مصر ، لم تظهر اهتماماته البحرية ، نظرا لعدم خضوع السواحل المصرية الشمالية لحكمه . ولكن هذا الوضع لم يلبث أن تغير نتيجة لحملة فريزر Fraser الإنجليزية على مصر عام 1807م . حيث نصت اتفاقية جلاء الحملة الموقعة بين محمد علي وقائد الأسطول الإنجليزي على تسليم قلاع الإسكندرية بما فيها من معدات وذخائر إلى مندوبي محمد علي ، وبذلك أصبح محمد علي يسيطر على مصر كلها بما فيها الشواطئ الشمالية ومن هنا بدأ اهتمامه بالبحر .
ثم جاءت الحرب الوهابية ( 1811- 1818م) في شبه الجزيرة العربية، لتكون الدافع الأساسي لمحمد علي لإنشاء أسطول بحري لنقل الجنود والمعدات عبر البحر الأحمر إلى موانئ الحجاز .
ولعبت ترسانة بولاق دورا كبيرا في بناء الأسطول الجديد ، فكانت السفن ُتنقل منها مفككة على ظهور الجمال إلى السويس ، وهناك في ترسانة السويس يبدأ العمال في تجميعها وقلفطتها ( أي دهنها بالقار) وتبيضها ثم إنزالها للمياه .
واستحوذ بذلك البحر الأحمر ، على اهتمام محمد علي ، باعتباره مسرح الأحداث ، ومركزا للعمليات الحربية ضد الوهابيين . كما زادت أهمية السويس كقاعدة لأسطول البحر الأحمر .
ولكن ما إن انتهت الحرب الوهابية ، إلا وأخذ البحر المتوسط يستحوذ على اهتمام والي مصر ، لاسيما وأنه الواجهة التي يطل منها محمد علي على أوروبا مصدر القوة والحضارة ، وعليه تقع أكبر موانئ مصر وأعظمها في مواجهة أكبر موانئ أوروبا .
وقرر محمد علي أن تصبح الإسكندرية هى القاعدة الرئيسية لأسطول البحر المتوسط .
في البداية بدأ محمد علي بشراء القطع اللازمة لهذا الأسطول من السفن القديمة من الدول الأجنبية ، ثم أخذ يوصي بصنع ما يلزمه في الموانئ الأوروبية على حسابه الخاص .
إلا أن هذا الأسطول قد تحطم في موقعة نفارين Navarin اثناء حروب المورة عام 1827م ، وفي الوقت نفسه واجهت محمد علي صعوبات كثيرة في بناء سفنه الحربية في الخارج ، فصمم على إنشاء أسطول جديد في مصر عن طريق بناء ترسانة حديثة بميناء الإسكندرية .
والحقيقة أن الإقدام على هذا العمل ليس بالأمر اليسير ، فقد واجهت محمد علي صعوبات جمة لإنفاذ هذا المشروع ، ولكنه تغلب عليها بإرادة من حديد :
أولا: معظم المواد الأساسية اللازمة لتلك الصناعة غير متوفرة في مصر مثل الأخشاب وألواح الحديد والنحاس والحبال والقطران وغيرها .
فنجده يحرص على إرسال البعثات إلى الأناضول ورودس وإيطاليا وانجلترا وفرنسا لاختيار اجود أنواع الأخشاب ، وحرص على استمرار تدفقه على ميناء الإسكندرية خشية توقف العمل بالترسانة .
كما انشأ عدة مصانع لتزويد الترسانة بما تحتاج إليه ، مثل مصانع سبك الحديد بالقاهرة ، ومعامل البارود الستة التي أنشأها في القاهرة والفيوم والبدرشين وغيرها .
ثانيا: كان بناء مثل تلك السفن الكبيرة يستلزم الاستعانة بالخبرات الأجنبية ، ولذا اتجه تفكير محمد علي إلى استخدام المهندس الفرنسي دي سريزي m . De Cérisy Bey الذي كان يشرف على بناء السفن المصرية في فرنسا ، للإشراف على بناء الترسانة والعمل بها . ولم يكتف بذلك ، بل كان يعلم أن استخدام الفنيين الأجانب في الترسانة إنما هو عمل مؤقت ، ريثما يعد المصريين اللازمين ليحلوا محل الأجانب ، ومن ثم عمل على إيفاد البعثات العلمية من الشباب المصريين إلى دول أوروبا للتخصص في الأعمال التي تتعلق بالإنشاءات البحرية ، وهندسة بناء السفن ، والأسلحة البحرية وغيرها .
كذلك اعتمد محمد علي، على الخبرات المحلية التي كانت موجودة بترسانة الإسكندرية القديمة ( تلك الترسانة التي كانت تقوم ببناء السفن الصغيرة وترميمها في ذلك الوقت ) ومن أهم وأشهر تلك الخبرات كانت شخصية مصرية صميمة ، هى الحاج عمر ، وهو من الصناع المصريين المهرة الذين اكتسبوا خبرة ومهارة فائقتين عن طريق الممارسة اليدوية في صناعة السفن ، وقد أثنى عليه المهندس الفرنسي سريزي ، واتخذه ساعده الأيمن ، وكان يثق في مقدرته وخبرته ثقة كبيرة ، حتى أن سريزي عندما أراد العودة إلى بلاده، والاستقالة من الإشراف على الترسانة ذكر أنه مطمئن على سير العمل بها ، طالما بها الحاج عمر .
ثالثا : ومن أهم الصعوبات التي واجهت محمد علي في إنشاء ترسانة الإسكندرية كان موقف الشركات الأوروبية والسماسرة الأجانب ، الذين كانوا يقومون بإمداد محمد علي بكل ما يريد ، فلقد ترتب على بناء الترسانة توقف نشاطهم ، وانقطاع هذا المورد الضخم ، ويكفي أن نذكر أن الفرقاطة « ثريا « عندما ُأرسلت إلى انجلترا لإجراء بعض الإصلاحات بها ، دفعت الحكومة المصرية 13909جنيهات و 15شلنا و 8 بنسات .
كذلك كان بيت مانزيني Manzini وفرناندي Fernandi يتقاضى أرباحا عن كل سفينة يوصي ببنائها في الخارج ، تصل إلى ما يقرب من ثلاثة أضعاف ثمنها .
فكان من الطبيعي بعد أن ُحرمت تلك البيوت التجارية من التعامل مع مصر أن تشن حربا شعواء على ترسانة الإسكندرية . فعملت تلك البيوت على تحريض الفنيين الأجانب العاملين بالترسانة على الإضراب والقيام بأعمال تخريب داخل أقسام الترسانة ، مقابل إغرائهم بالمال . وقد أدت تلك العمال بالفعل إلى ارتباك العمل داخل الترسانة ، وإلى توقف بعض أقسامها عن العمل بعض الوقت .
أيضا لجأت الشركات الأوروبية إلى المغالاة في أثمان المواد الخام اللازمة للصناعة مثل الأخشاب والحديد والنحاس ، فضلا عن توريد الأنواع الرديئة منها والتي تتلف بسرعة.
ومن العقبات التي واجهت محمد علي في بداية الأمر افتقار العمال المصريين إلى المهارة والدقة اللازمتين للقيام بعملهم ، وترتب على ذلك زيادة النفقات مع ضعف الإتقان . ولكن محمد علي كان يعلم بأنه بمرور الوقت سيزداد العمال خبرة وإتقانا ، وبذلك تقل النفقات ، وتثبت أقدام تلك الصناعة الاستراتيجية في مصر ، وتتحرر مصر من خضوعها لشروط ترسانات الدول الأوروبية التي قد تضن عليها في الأوقات الحرجة التي تتعرض فيها البلاد لعدوان بحري خارجي.
وفي حقيقة الأمر فقد ُقوبلت تلك العقبات بصبر وتصميم من كل من محمد علي وسريزي .
رابعا : تطلب إنشاء الترسانة القيام بعملية مسح واختبارلسواحل الإسكندرية لاختيار الموقع المناسب لذلك . وقد بدا لسريزي أن منطقة العجمي تصلح لذلك نظرا لعمق المياه بها ، ولوجود شاطئ يصلح لإقامة المنشآت المطلوبة ، ولكنه استبعد هذا الرأي نظرا لبعده عن الإسكندرية من ناحية ، ولأنه مكشوف للرياح ولهجمات الأعداء من ناحية أخرى .
وأخيرا استقر رأيه على اختيار جزء من الشاطئ شمال غرب المدينة ، ويمتد بطول نصف ميل حتى قصر الوالي .
وقد واجه سريزي صعوبة من قلة عمق المياه في هذه المنطقة نظرا لتراكم الرمال في قاعها ، فاستلزم هذا العمل شراء كراكات من الدول الأوربية لتعميق الميناء وإزالة ما بها من رمال .
وبالفعل بدأ العمال في حفر أساس الترسانة يوم 9 يونيو 1829م . وما إن أشرف عام 1832م على النهاية حتى كانت الترسانة قد اكتمل بناؤها واستكملت معداتها .
وكانت تضم أربع عشرة ورشة منها: ورشة الحبال ، ورشة الحدادة ، ورشة البوية ، ورشة الترزية لعمل الأعلام والرايات ، ورشة الخراطة ، وغيرها .
ومنذ ُأنشئت الترسانة ، وطوال عصر محمد علي ، والأمور تسير بها في دقة ونظام تامين ، فكان التقصير في العمل جريمة يعاقب مرتكبها عليها سواء أكان ذلك عن قصد منه أم عن غير قصد . فقد حدث ان تحطمت إحدى السفن أثناء دخولها الميناء في يوم عاصف ، فحوكم الضابط محاكمة عسكرية وُحكم عليه بالموت ، ثم عفا عنه محمد علي بعد عدة التماسات وتوسط عدد كبير من الشخصيات ، ولكن منذ ذلك اليوم لم تغرق سفينة واحدة .
ومن المظاهر الجميلة في ذلك الوقت إقامة حفلات كبيرة في الترسانة عند الاحتفال بإنزال إحدى السفن الجديدة إلى البحر (وهي ما نطلق عليه اليوم حفلات التدشين) وكان يحضر هذه الحفلات محمد علي والعلماء وكبار الشخصيات . ثم ُتنحر الذبائح، ويطلق الاسم المختار لهذه السفينة ، وحرص محمد علي على نشر أخبار تلك الاحتفالات في الجريدة الرسمية ، جريدة الوقائع المصرية .
ولكي نقف على ما بلغته الترسانة من قوة وازدهار في فترة زمنية قصيرة ، يجب أن نلم بكتابات الأجانب الذين زاروا الترسانة في ذلك الوقت ، أو أقاموا بها ، ودونوا ما شاهدوه بكل دقة ومنهم :
الرحالة الفرنسي المارشال مارمون Marmontt ، الذي زار الترسانة عام 1834م ، فبهرته دقة أعمالها ، وكفاءة عمالها المصريين، فكتب يقول : « في عام 1828 م لم يكن بالإسكندرية إلا ساحل مقفر ، وكن هذا الساحل أصبح في عام 1834 مغطى بترسانة كاملة وأحواض للسفن ، ومخازن ومعامل ومصانع ، ومما استوقف نظري ورشة الحبال التي يبلغ طولها 1040 قدما أي في طول ورشة الحبال بثغر طولون (القاعدة الحربية الرئيسية لفرنسا على البحر المتوسط)، وقد شاهدت في الترسانة عمالا يعملون في مختلف معاملها ولهم مهارة في كل ما ُيعهد إليهم من الأعمال ، وهم جميعا من المصريين ويسود بينهم النظام والعمل والنشاط ، وهذه الترسانة التي لم يمض على إنشائها أكثر من ست سنوات قد ُصنع فيها عشر بوارج ، سلاح كل منها مائة مدفع . وقد تمت هذه المنشآت ووصلت البحرية المصرية إلى هذه النتائج المدهشة في ذلك الزمن القصير في بلاد ليس فيها أخشاب ولا حديد ولا نحاس ، ولم يكن فيها عمال ولا بحارة ولا ضباط مجربون ، أي أنها كانت مفتقرة إلى كل العناصر اللازمة لإنشاء أسطول ، وهذه همة لا نظير لها في التاريخ ، والفضل في هذا العمل الجليل راجع إلى كفاية مسيو سريزي وإلى عزيمة محمد علي الحديدية التي تغلبت على كل الصعاب . حقيقة كان العمل في الترسانة يتولاه الفنيون ، ولكن محمد علي كان يقضي أياما بأكملها وسط العمال ، فكان حضوره يبعث في نفوسهم روح النشاط والهمة ، ويذلل العقبات التي تعترض العمل ويحمل كل واحد من العمال على بذل كل ما في طاقته من الجهود».
وكتب بورنج Bowring يقول : « ترسانة الإسكندرية جديرة بأن يوجه إليها التفات خاص فمنذ أن قمت بزيارتها في نوفمبر 1837 ، علمت من كاتب الحسابات أن عدد من يشتغلون بها 5500 ، وأن عدد الكتبة 100 ، ويعول الباشا ( محمد علي ) العمال وأسرهم ، إذ ُتخصص للنساء جرايات وللأطفال جرايات أسوة بالرجال ، وكان لبعض أولئك العمال زوجتان أو ثلاث . وكانوا يسكنون في أكواخ قريبة من الترسانة ، وهى أكواخ لا تتفق وقواعد الصحة ، حتى إذا جاء موسم الطاعون زارها ذلك الوباء وهو لا يميز بين كوخ وآخر . ويجري العمل الآن في هدم تلك الأكواخ وإنشاء مساكن خير منها تحل محلها على نفقة الحكومة».
وأشاد كلوت بك Clot Bey بمهارة الصناع المصريين الذين خلدوا اسم ترسانة الإسكندرية فكتب يقول : « وترسانة الإسكندرية التي يصنع فيها كل شىء بأيدي المصريين ، وتناظر لهذا السبب جميع ترسانات الدنيا ، لهى دليل ناطق على مبلغ ما يمكن الإستفادة به من العمال المصريين ويقيني أن عامة الشعب في أوربا لا يستطيعون أن يؤدوا من جلائل الأعمال ما يؤديه العمال المصريون في مثل الوقت القصير الذي يقومون بها فيه».
ويواصل كلوت بك حديثه قائلا: «وقد كان تعيين سريزي رئيسا للترسانة مع اطلاق يده في إدارتها حسبما يريد، فرصة ذهبية أتاحت له تنفيذ التعديلات التي كان يطالب ضباط البحرية الفرنسية بإدخالها على السفن الفرنسية ، ولم يوفقوا في ذلك ، فأصبح قسما عظيما من التنسيقات والترتيبات المرعية في بناية السفن الحربية الفرنسية ُوجدت في السفن التي أنشئت بالقطر المصري قبل وجودها في فرنسا بزمن طويل ، أي أن ترسانة الإسكندرية سبقت ترسانات فرنسا إلى الوسائل الحديثة في بناء السفن ».
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر - كلية التربية – جامعة الإسكندرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.