أكد الدكتور محمد عثمان الخشت، أستاذ فلسفة الأديان والمذاهب الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب بجامعة القاهرة والمستشار الثقافى المصرى ورئيس البعثة التعليمية بالمملكة العربية السعودية، أن العقل المغلق غير قادر على الحوار أو الوصول إلى مناطق مشتركة مع الآخر، لأنه مثل الحجرة المظلمة التى لا ترى النور. ويرى الخشت فى حوار مع «الأهرام» حول تجديد العقل الدينى إن صاحب العقل المغلق أشبه بالطفل فى رحم الأم، وهو غير متصل مع العالم الخارجي، ولا يمكن لأحد أن يحاوره، لأنه يظن أن الخروج من هذا العالم مهلكة. ويؤكد أن الكثيرين يخلطون بين معتقدهم الدينى ومواقفهم السياسية ذات الطابع الإنسانى المتغير، وأن الخلط بين المعتقد والمواقف السياسية سبب الأزمة. وانه على الجانب الآخر من هؤلاء نجد رجال الدين الذين يتخذون الإسلام مهنة وليس رسالة، وحولوا الدين إلى مؤسسات ذات سلطة ومرجعية تحتكر الحقيقة وتركز على الشعائر والمناسبات أكثر مما تركز على نقاء الضمير واتساق القول والفعل، والشكل والحرف أكثر مما تركز على الجوهر والعقل والإنسان، وتبرر للحكام قراراتهم ومصالحهم، فالدين عندهم «سبوبة»! وطالب الدول العربية بتبنى مشروع علمى حداثى وتغيير المناهج التعليمية كبداية لتجديد الخطاب الديني.. والى نص الحوار: لماذا تعتقد أن الفهم الحالى للإسلام قاصر؟ لهذا أسباب كثيرة، أكتفى منها هنا ب«النظرة إلى الإسلام من زاوية واحدة وضيقة»، هى زاوية القراءة الضيقة والحرفية لنصوص الكتاب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والأخذ ببعض الكِتاب وترك البعض الآخر، غافلين عن روح الإسلام وأدلته الكلية. وعمى بعض المسلمين فى عصرنا ليس عمى عين وإنما عمى ثقافة، وعمى الزاوية الواحدة التى ينظرون منها، وهى زاوية الموروثات الاجتماعية وزاوية المصدر الواحد للمعرفة؛ فهم يخلطون بين موروثاتهم الاجتماعية والتصور الإسلامى النقى والشامل. ولذا تجدهم يعتقدون أنهم يحتكرون الفهم الصحيح والأوحد للإسلام، ويبدون تعصبهم مع المختلفين معهم. هل تقدم لنا نماذج لتلك التفسيرات الخاطئة للإسلام؟ مثل الرجعيين الذين يضفون على الإسلام الطابع الرجعي، فلا يرون فيه إلا سلطة الرجال وعزل المرأة، والخشونة، ورفض الفنون! أما العلمانيون فهو عندهم علاقة فقط بين العبد وربه، ولا شأن له بصلاح الحياة العامة ولا دخل له بأى شأن من شئونها. والجماعات الماسونية والباطنية والسرية تضفى طابعها الخاص عليه؛ فتراه دين العمل السري، والتقية، والعمل من وراء ستار، والرغبة فى السيطرة والهيمنة. أما الجهاديون، فالإسلام عندهم هو دين الفتك، والعنف، والقوة، وتكفير الآخر. وهو دار السلام فى مقابل دار الحرب. والصوفيون يرون فيه دين الزهد والتقشف والذكر والاعتزال عن الكفاح فى الحياة. أما الكتلة الصامتة فالإسلام عندها هو دين المناسبات: رمضان، العيد، رجب، شعبان، المولد النبوي، الحج. وبعض الفنانين يتصورون الله تعالى رب قلوب فقط وليس رب أعمال أيضا، والمهم القلب، ومادام قلبك سليما تقدر تعمل أى حاجة. وعلى عكسهم لكنه يقع أيضا فى الخطأ نفسه البعض من المتشددين الذين يفهمون تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن، ويحصرون أنفسهم فى جانب ضيق: المظهر والملابس والشكليات، نصف الجسد الأسفل، الجنس، الزوجات، الطقوس، ومن ثم حوّلوها من تعاليم للروح والجسد معا إلى تعاليم للجسد فقط. أما بعض رجال الدين الذين يتخذون الإسلام مهنة وليس رسالة، فقد حولوا الدين الأصلى إلى مؤسسات ذات سلطة ومرجعية تحتكر الحقيقة وتركز على الشعائر والمناسبات أكثر مما تركز على نقاء الضمير واتساق القول والفعل، وتركز على الشكل والحرف أكثر مما تركز على الجوهر والعقل والإنسان، وتبرر للحكام قراراتهم ومصالحهم، فالدين عندهم «سبوبة». وهكذا نجد أن كل هؤلاء لا تزال تسيطر عليهم الرؤية الأحادية للإسلام، بينما رؤية الإسلام أوسع من ذلك بكثير: الكون، الإنسانية، الحضارة، التاريخ، العدالة الاجتماعية، الإنصاف، الخير والرحمة للعالمين. هل توافق أن كثيرا من المسلمين يخلطون بين معتقدهم الدينى ومواقفهم السياسية؟ نعم، فلاشك أن الكثيرين يخلطون بين معتقدهم الدينى ومواقفهم السياسية ذات الطابع الإنسانى المتغير. إن الإسلام يشتمل على أصول الحكم السياسى العادل. هذا شيء لا شك فيه، لكن الكارثة تكمن فى أن يعتبر أى شخص أن مواقفه السياسية المتغيرة والمرتبطة بالمصالح والطبقة والجماعة التى ينتمى إليها هى تعبير عن الإسلام الخالد نفسه! لكل هذا يجب عدم الخلط بين الإسلام كدين فى حد ذاته، والإسلام كما يفهمه ويمارسه بعض المسلمين فى ضوء ثقافتهم المحدودة وعقائدهم الجامدة ومصالحهم الخاصة. هل تعتبر العقل المغلق أحد أسباب الصراع والانتكاسات التى يشهدها العالم الإسلامى منذ فترة؟ العقل المغلق غير قادر على الحوار وغير قادر على الوصول إلى مناطق مشتركة مع الآخر؛ لأنه مثل الحجرة المظلمة التى لا نوافذ لها .. إنها لا ترى النور، ولا يمكن لمن بداخلها أن يرى شيئا سواء فى الداخل أو الخارج.. ولا يتنفس إلا هواء قديما، ولا يمكن لأحد أن يحاوره، ولا يمكن أن يخرج من هذا العالم المغلق بإرادته، إنه يظن أن الخروج من هذا العالم مهلكة، وهو يصرخ بأعلى صوته ويتلوى ويرفس عند إخراجه قسرا. وعندما يدخل فى صراع مع أحد، فالبديل الوحيد عنده هو إعلان الحرب المقدسة، فهو وحده على طريق الحق والخير، وغيره كافر، أو عَلماني، أو ضال، أو شرير أو فاسد. وهكذا يتحول معه العالم إلى: أبيض وأسود، ملائكة وشياطين، دار السلام ودار الحرب. وهذه الحالة من الانغلاق العقلى التى يعيشها تجعله منفصلا تماما عن الواقع؛ أسير أوهام يعتبرها مقدسة ومنزهة. كيف ترى الفجوة بين الإسلام والمسلمين؟ توجد مسافة واسعة بين الإسلام والمسلمين، فالإسلام (قرآنا ورسولا) يقدم نموذجا إنسانيا عالميا للدين الذى يلائم الطبيعة الإنسانية، ويعترف بالتنوع الكونى والإنساني، ويعتبر التعددية سنة إلهية، ويميز بوضوح بين البشرى والإلهي، وهو فى الأساس جاء رحمة للعالمين وليس لبعض المسلمين فقط، ومن مقاصده الكبرى تحقيق العدالة الاجتماعية والحفاظ على الأوطان ومصالح الناس.. كل الناس: حياتهم، عقولهم، دينهم، أموالهم، أعراضهم. وهذه الأمور الخمسة تسمى بالضروريات الخمس، وبمقاصد الشريعة، وهى الأمور التى تظهر من جميع أحكامه.وبعض أو أكثر المسلمين منذ لحظة الانحدار الحضارى وحتى الآن يفسرون هذه المقاصد على أنها خاصة بهم أو بفصيلهم، أما باقى الفصائل فليس لها إلا التكفير الدينى أو السياسى وكلها فى النار. هكذا يفكرون. بقدر وجود فجوة بين «فهم الغرب» و«الإسلام الأصلي»، توجد فجوة من نوع آخر بين »فهم المسلمين» و«الإسلام الخالص».. كيف ترى الحل؟ الحل ليس هو تجديد الإسلام، بل تجديد المسلمين. وفى ظنى أن هذا سوف يقضى على الفجوتين فى وقت واحد! كيف؟ إن تجديد الخطاب الدينى يجرنا إلى مجموعة من الإشكاليات الحقيقية التى تتعلق بواقع المسلمين اليوم وعلاقتهم بالإسلام الحقيقي، وهى علاقة تقوم على فهم هش ومزيف، ولذلك ازدادت الفجوة بين المسلمين والإسلام. وهذه الفجوة، لا تسأل عنها فقط الظروف التاريخية والاجتماعية، وإنما يُسأل عنها أيضا «الخلل فى طرق التفكير» وهو خلل جاء نتيجة التعليم القائم على الحفظ والتلقين لا الفهم والتدبر، والمصيبة أن من يحاول الفهم لا يُعمل عقله، وإنما يستعير فهم الأقدمين أو يستورد فهم الغرب. إن آلاف الخطب العنترية وآلاف العمليات الإرهابية لن تحل أى إشكال من الإشكاليات السابقة، بل سوف تزيدها تعقيدا، وهذا ما برهنت عليه المائتا عام الأخيرة. ومع ذلك لا تزال الخطب الجوفاء مستمرة، ولا تزال العمليات الإرهابية جارية. إن المشروع العلمى الحداثى وتغيير مناهج التعليم وتلقيح الفكر العربى بالفكر العالمى وسائل لا غنى عنها لتجاوز العيوب التقليدية التى يقع فيها الخطاب الدينى التقليدي؛ بجوار التحرر من سلطة القدماء، وإعمال العقل النقدي. كيف يمكن التعامل مع التراث؟ إن التراث مليء باتجاهات شتى متباعدة، وأحد سبل تجديده وليس كلها هو إعادة التحليل النقدى لمكوناته تحليلا علميا، ثم إعادة بنائها لصنع مركب جديد أو منظومة جديدة، مثل التعامل مع العناصر الكيميائية، من الممكن أن أصنع منها سما أو أصنع منها دواء. وفى أحيان أخرى يكون التجديد عن طريق تغيير المرجعيات البشرية، أو استدعاء الاتجاهات الأصيلة و نقض وتهميش الاتجاهات الرجعية، وهناك طرق أخرى كثيرة، لا يتسع السياق لها الآن.