لا شك أن السلام هدف أسمى للشرائع السماوية كلها، ومن أهم غاياتها فى الأرض، ومن ثم جاءت الرسالات تترى مؤكدة ضرورة المعاملة فى ضوء السلم النفسى والأسرى والمجتمعي، فهذا نوح (عليه السلام ) يخاطبه ربه (عز وجل) بقوله تعالى: (يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ)، وهذا إبراهيم (عليه السلام ) لما وصل مع أبيه إلى نقطة لا يمكن معها الاتفاق، وأصر أبوه على طرده، لم يؤثر عنه أن أساء له أو نال منه ؛ وإنما كان ما سجله القرآن الكريم على لسانهما، حيث قال سبحانه: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِى يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا)، فمع كل هذا الوعيد والتهديد من والد إبراهيم عليه السلام ، لم يقابله إبراهيم إلا بما يليق بما عليه الأديان من سلام مع النفس، وسلام مع الآخر، وسلام مع الكون كله، ومقابلة السيئة بالحسنة « قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا «، وهذا عيسى (عليه السلام) يلقى السلام على نفسه، فيقول: « وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا «. وهكذا يعنى السلام فى مضمونه العملى إقامة مبادئ العطف والبر، والعدل والإنصاف، والمساواة بين الخلق، بعيداً عن الأطماع البشرية؛ إذ لا يسمى السلام سلاماً إذا كان لصالح طرف دون الآخر. أليس السَّلامُ هو تحية الناس فيما بينهم لقاءً وافتراقًا؟ ألم تتكرَّر لفظة «السلام» فى اثنين وأربعين موضعًا فى القُرآن الكريم؛ احتفاءً بشأن السلم وتأكيدًا على دوره العظيم فى بناء الفرد والمجتمع؟! ألم يُسَمِّ القرآنُ الكريم الجنَّة التى أعدَّها الله لعباده الصالحين باسم: «دار السَّلام»؟ وجعل تحيَّةَ أهلها فيما بينهم هى كلمة السَّلام. كل ذلك من أجل نشر الأمن والسلام بين أفراد المجتمع؛ ليتمكنوا بعد ذلك من أداء مهامهم الدينية والدنيوية، ويحققوا لأبنائهم وأوطانهم ما يحلم به كل غيور على بلده وأهله، مُجدّ فى بلوغ آماله وطموحاته. وانطلاقاً من مبادئ الإسلام العامة ومقاصده الهامة، لم يقتصر السلام فى الإسلام على أهل الإيمان، وإنما صار مبدأ للبشرية قاطبة، لينعموا معًا بالأمن والسعادة، ويحرصوا جميعاً على نشره فى الأرض، فلقد جاء فى حديث زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )، قال: حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثَلَاثًا، فَجِئْتُ فِى النَّاسِ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ». فقد وجّه النبى (صلى الله عليه وسلم) حديثه إلى الناس جميعًا لا إلى المسلمين وحدهم ولا إلى المؤمنين وحدهم، وإنما قال: صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس أفشوا السلام بينكم «، كما نلاحظ أنه (صلى الله عليه وسلم) قدم إفشاء السلام على إطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام، تأكيدًا على مكانة السلام وأهميته فى أمان الفرد والمجتمع. أرأيت كيف جاء الخطاب لكل الناس ؟! ليس هذا فحسب، بل إن الأقرب من ربه وكرمه وعطفه ووده وبره، هو الأسبق من غيره فى بذل السلام وإلقائه وإفشائه، لما ورد فى سنن أبى داود بسنده عَنْ أَبِى أُمَامَةَ (رضى الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ). لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة