هل الحياة تستحق أن ُتعاش ؟ليس الجواب سهلا كما قد يبدو للبعض . يتوقف الأمر ، على منْ يعيشها . لا نتصور أن يكون هدف الحياة ، أن نأكل ونشرب وننتج السلع ونتنزه ونتعامل مع الأجهزة ونتزوج ونتناسل . هناك هدف أعظم وأسمي، تطمح اليه الحياة...... أن يبحث كل منا عن ذاته «المتفردة»، وأن يكافح من أجل إطلاق مواهبها وقدراتها الخلاقة . نعم لكل إنسان ذاته المتفردة، التى لا تشبهها أخري. تماما مثل بصمة الإصبع غير قابلة للتكرار. كل إنسان يولد متفردا . ولكن ليس كل إنسان يموت متفردا ، ترى ما الذى يحدث لنا بين الولادة والموت ؟ ترى ما الذى يقتل فينا فطرة التفرد ؟ إنه «الخوف من الاختلاف». نخاف أن نفكر ونحس ونغضب ونحلم ونتكلم ونتحرك ونبدع، خارج الخطوط والمدارات المألوفة المرضى عنها . منذ الصغر فى الأسرة يزرع الأهل، سلطة الأب أو سلطة الأم أو الاثنين معا بدايات هذا الخوف. وتتعاون كل ثقافة المجتمع الأكبر، فى تدعيم ما أرسته سلطة الأسرة، فى خلق البشر، متشابهى التفكير والإحساس والأحلام . إن حماية الذات المتفردة الكامنة فينا، والمتحفزة للتحقق، مرهون بإعلاء قيمة «التمرد» فى حياتنا.. التمرد على محاولات التنميط والقولبة . أهى مصادفة ، أن حرفا واحدا ، يفصل ما بين كلمة «تمرد»، وكلمة «تفرد» ؟؟؟ يكمن جوهر التمرد ، فى انحياز الإنسان ، لإرضاء الذات، لا ارضاء «الآخر». هذا ليس معناه ، التفنن فى خلق صراعات دائمة مع الآخر. وليس معناه حب الصدام فى حد ذاته.. ولكن القضية، أن يكون الإنسان يقظا . حينما يتعارض فيه «الآخر»، مع إطلاق صوت ذاته الداخلي، تكون الأولوية بدون تردد للذات . «التفرد» أمانة أودعتها الحياة فى نفوس البشر. وبالتالى فإن التنازل عن حقنا فى «التمرد»، والحرص الدائم على إرضاء الآخر لا إرضاء الذات، هو خيانة عظمى للحياة. لكن الحفاظ على أمانة «التفرد»، ليس طريقا مفروشا بالزهور. إنه طريق ملغم بالأخطار. لا شئ يثير حفيظة الناس وغضبهم ، إلا «ذات» مصرة على اختلافها، واثقة من تفردها . ومن الإصرار والثقة ، تتولد الشجاعة الضرورية للسباحة ضد التيار ، والقدرة على تحمل العواقب. وتتولد أيضا «لذة» الحياة ، و «متعة الوجود» . إن الاضطرابات النفسية ، والميول العدوانية العنيفة تجاه الآخر ، أو تجاه النفس وأفكار التطرف ، والتشدد ، وسلوكيات التعصب، كلها تجد جذورها فى عجز الإنسان عن تحقيق ذاته المتفردة . والاستعاضة عنها ، بنسخة مشوهة من ملايين البشر . المثال الصارخ النموذجى ، هو الشخصية الارهابية ، التى فقدت كل أمل فى «التحقق» . وهى تعوض عن ذلك، بسفك الدماء، والانتماء، الى فكر، مريض، يحترف القتل، والترويع. الشيء الغريب ، أن البشر يوجهون الكثير من الوقت والجهد والاهتمام لتنمية أشياء خارجة عنهم ، مثل النجاح والفلوس والشهرة وكسب الأصدقاء والعلاقات الاجتماعية . كل ذلك فى إطار من استحسان الآخرين ، ورضاهم ومدحهم . ولكنهم يبخلون بالوقت والجهد والاهتمام ، للاستماع إلى صوتهم الداخلى ، وإنماء الذات المتفردة داخل كل منهم. إن الانشغال بالعالم الخارجى ، وإهمال العالم الداخلى ، يضع أسس اغتراب الإنسان عن ذاته الحقيقية . وطالما اغترب الإنسان عن ذاته ، فإنه يظل غير سعيد ، مهما وصل إلى نجاح مادى أو مركز مرموق أو شهرة أو فلوس . ومهما أحاط نفسه بالعديد من الصداقات والعلاقات . لقد اعتبر الفيلسوف الدانماركى « سورين كيركجورد « ، 1813 -1855 أبو الفلسفة الوجودية ، وأكثر الفلاسفة تأكيدا على أهمية الذات، أن الحقيقة هى الذاتية . حيث إن العالم الخارجى «الموضوعي»، لا يقدم لنا إلا الشك. تأتى الحقيقة من ذاتية العلاقة ، وليس موضوعيتها ، التى يشترك فيها كل الناس. معنى ذلك أن «الموضوعية»، التى تكاد تُعبد، ليست الا ، غياب تفرد الإنسان . ولأن الحياة قد أودعت فى قلب كل إنسان ، بصمة متفردة ، فإن كل ذات تحمل داخلها سرا من أسرار الكون . وربما تحمل الكون كله ، فى شكل بشرى مصغر . وبالتالى فإن كفاح الإنسان لإعلاء ذاته المتفردة ، هو بالضرورة إعلاء لكلمة الحياة ، وانتصار لقوانين الكون الأزلية ، المرادفة ، للعدل ، والخير ، والحب ، والجمال . إن الحياة تتقدم وتزدهر ، بفضل هؤلاء النساء والرجال ، الذين أرهفوا السمع إلى صوتهم الداخلى ، رغما عن صخب التشابه، ولم يتنازلوا عن تفردهم الذاتى مقابل أية إغراءات خارجية . حقا ، ماذا يفيدنا لو ربحنا العالم وخسرنا أنفسنا ؟! لن يبنى مصر ... لن ينقذ مصر .. لن يحمى مصر .. الا تلك الشخصيات من الرجال، والنساء، التى عثرت على خط التماس، بين «تفردها»، وبين نهضة مصر. بين تحققها الشخصى وبين مصلحة مصر .