المسلسل الدرامى الذى يعيشه العرب على مدار الساعة منذ أكثر من أربعة أعوام ويبث باللحم الحى والدم الساخن تحجبه الآن السجالات حول ما يبث من مسلسلات الدم فيها ماء مصبوغ بالأحمر والقتل فيها حيل سينمائية، ودموعها من ماء عذب لا ملوحة فيه . فهل بلغ استخفاف العرب بما يحاصرهم ويضغط على أنوفهم حدا جعلهم ينصرفون عن هذا الواقع الحيّ والراعف إلى واقع مُتخيّل ؟ إنها على ما يبدو سياسة الحروب البديلة والوهمية سواء دارت فى ملاعب الرياضة او على الشاشات، فلا يعقل أن تتفوق الدراما المُتخيلة على الدراما الواقعية، ويشتبك المعلقون والمشاهدون والقائمون على هذا الفن إنتاجا وإخراجا وتمثيلا لأن عبارة غير مألوفة وردت فى هذا المسلسل او حركة ناتئة عن السياق وردت فى ذاك ! نعرف بالخبرة والتكرار معا ان الثقافة الموسمية بمختلف محاصيلها أصبحت هى السائد فى مجتمعات تسعى إلى إخفاء ما تعانى منه كما لو أنه عورة ينبغى التستر عليها، لكن السيل عندما يكون من دم وليس من ماء ويتجاوز الزّبى يخرجنا عن صمتنا، لأن الصمت فى مثل هذا الوقت تواطؤ، إن لم يكن مشاركة فى التدمير والتفكيك . المسلسل الدرامى الذى زاوج بين التراجيديا والكوميديا على نحو غرائبى والذى نشاهده منذ اكثر من اربعة اعوام عدد حلقاته لا يحصى ويتجاوز عدد حلقات اى مسلسل تركى او مكسيكي، اما السيناريست فى هذا المسلسل الدموى فهو لا يعلن اسمه، لهذا نحاول ان نحزره من خلال القرائن او القياس على مسلسلات سابقة شهدتها هذه المنطقة المنكوبة منذ عدة عقود . ان هذه التراجيكوميديا لها مخرجون ايضا ويعملون كفريق او اوركسترا لها مايسترو يحمل بيده بندقية وليس عصا انيقة من خشب الورد, وكما ان هناك ابطالا لهذا المسلسل هناك ايضا كومبارس وضيوف شرف منهم سماسرة دم وتجار لجوء وهجرات قسرية واصحاب مصانع خيام، فى زمن اعد العرب فيه لاعدائهم ما استطاعوا من خيام، اما الخيل فهى فى مكان آخر، تجر عربات النفط والبطيخ واصبح صهيلها كالمواء . وهذا السجال الذى لا ينقطع ليلا ونهارا حول الدراما المتلفزة والموسمية ليس بيزنطيا، ولا علاقة له بعدد الملائكة او الشياطين، انه من رواسب ذلك المكبوت المزمن الذى أفقدنا براءة الحوار وجدواه، واضاف الى كلمة حوار نقطة من دم على حرف الحاء بحيث اصبح خوارا والخوار لمن لا يعرفه فى لغتنا الفصحى هو صوت الثور عندما يهيج ! ولا ندرى كيف استطاع الماء المصبوغ باللون الاحمر ان يحجب لون الدم ورائحته اللهم الا اذا كنا مستغرقين فى غيبوبة كهفية من درجة لا تبشر بعودة الوعى ونادرا ما تعترف النخب العربية على اختلاف مرجعياتها واطيافها بالحقائق وذلك تهربا من عبء المسئولية لانها كانت لزمن طويل عاطلة عن دورها التاريخى وبعضها كان طفوه على السطح اشبه بطفو الطحالب والسرخسيات لانها بلا جذور ! والمسكوت عنه حتى الان رغم انفجار الثرثرة حد الطوفان هو اننا ورثنا أسوأ ما انتجته الدول التوتاليتارية او ما يسمى النظم الشمولية وأسوأ ما أفرزته الرأسمالية فى ذروة توحشها . ما اخذناه او بمعنى ادق تسلل من مساماتنا من النظم الشمولية هو القطعنة، وعدم الاعتراف بحق الاختلاف، فالمطلوب منا جميعا ان نكون كأسنان المشط رغم ان الامشاط تتساقط احيانا بعض اسنانها وتصبح درداء كأفواه العجائز . فهل اصبحت كلمة حرية مجرد حجر كريم او ايقونة، وهى بالتالى ممنوعة من الصرف، بحيث ما ان يقترف احدنا خطأ حتى لو كان محاولة بريئة حتى يتعرض للرجم من كل الجهات . ونقول هنا للتذكير فقط بأن بعض الدول ومنها اليابان استطاعت ان تستولد الفن ومنه الشعر بواسطة الحواسيب لكنها أقلعت عن ذلك لأن ما ينتجه الحاسوب بارد ومحايد وخال مما يسمى الاخطاء البشرية الحميمة . ان ما تعرض له تنويريون فى اواخر القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين ومنهم طه حسين وعلى عبد الرازق وقاسم امين اضافة الى الكواكبى الذى مات مسموما تكرر بعد اكثر من سبع ثورات عربية رفعت شعارات ترددت الثورة الفرنسية فى رفعها وكأن الافراط فى المبالغة دافعه التعويض عن نقصان ما . إن الأهم من كل ما يقال عن الدراما الموسمية من الناحيتين الفكرية والفنية هو السلطة الجديدة مطلقة القوة والهيمنة والهيلمان وهى الاعلان، فالمسلسلات على اختلاف آرائنا حولها هى هوامش متقطعة، اما الاعلان فهو المتن وهو سيد الوقت والمكان، وهذا ما تنبأ به هربرت ماركيوز قبل عقود عندما اصدر كتابه الشهير الانسان ذو البعد الواحد، عندما حذّر من السعار الاستهلاكى وما سماه تسليع الانسان اى تحويله الى مجرد سلعة . المسألة جذريا ليست فى التفاوت بين مُنتج درامى وآخر، سواء من حيث التقنية او الفكرة، لأنه ما من غريق يرتطم جسده بخشبة لديه الوقت كى يتساءل عن نسبها وهل هى من شجرة سنديان او زيتون او بلوط، فهذا كله مؤجل الى ان يصل الى الشاطئ وينجو من الغرق ! وما يقال عن هذا السينارست العربى او ذلك المخرج لا يقال واحد بالالف منه عن السيناريست الكبير الذى صاغ لنا هذا المسلسل الدموى الذى يبث باللحم الحى والذخيرة الحية على مدار الساعة فكيف تحول الاساسى الى ثانوى وقلبت قائمة الاولويات ؟ ان من يموتون او يعذبون فى المسلسلات الموسمية ينهضون من تحت ركام الحيل السينمائية ويقبضون اجرهم بسخاء لكن من يموتون بالآلاف فى المسلسل ذى الألف حلقة وحلقة يتركون وراءهم ارامل وأيتاما ومهاجرين بلا أنصار ! اننا احيانا نبدو فى مشهد كاريكاتورى كمن يحمل مرآة بيده ويحلق ذقنه تحت غارة جوية ويشكو فقط من شحة الضوء تحت سماء غائمة ومغطاة بالدخان والغبار !! لمزيد من مقالات خيرى منصور