أوردت السنة النبوية الشريفة عدة أحاديث تكلم فيها أطفال وهم لا يزالون رضعا في المهد, وكان تكلم هؤلاء الأطفال دليل براءة للرسل أو لأولياء الله الصالحين تارة, وتعليما وتثبيتا للناس علي الحق تارة أخري, ومن أمثال ذلك شاهد يوسف وابن ماشطة فرعون والطفل الرضيع في قصة أصحاب الأخدود, وقد جمع أحد الأحاديث قصة ثلاثة ممن تكلموا في المهد, فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: تكلم في المهد ثلاثة: عيسي, وكان في بني إسرائيل رجل يقال له:جريج, كان يصلي, جاءته أمه فدعته, فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت:اللهم لا تمته حتي تريه وجوه المومسات. وكان جريج في صومعته, فتعرضت له امرأة وكلمته, فأبي,فأتت راعيا فأمكنته من نفسها, فولدت غلاما, فقالت:من جريج. فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه,فتوضأ وصلي,ثم أتي الغلام فقال:من أبوك يا غلام؟ قال:الراعي. قالوا: نبني لك صومعتك من ذهب؟ قال: لا, إلا من طين. وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل,فمر بها رجل راكب ذو شارة, فقالت:اللهم اجعل ابني مثله, فترك ثديها وأقبل علي الراكب فقال:اللهم لا تجعلني مثله,ثم أقبل علي ثديها يمصه. قال أبو هريرة:كأني أنظر إلي النبي صلي الله عليه وسلم يمص إصبعه. ثم مر بأمة, فقالت:اللهم لا تجعل ابني مثل هذه, فترك ثديها, فقال:اللهم اجعلني مثلها. فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة, وهذه الأمة يقولون: سرقت, زنيت, ولم تفعل,صحيح البخاري1268/3]. ويشير الحديث إلي الإيمان بخوارق العادات من المعجزات والكرامات التي جعلها الله تعالي دلالة علي صدق رسله وصلاح أوليائه ونجاة لهم من ظلم الناس, ولكن بجانب ذلك نري في الحديث معاني أخري وخيوطا رابطة ودقائق خفية من وراء القصص المذكورة فيه, منها علي سبيل المثال الدلالة علي دور الأم وعظم حقها, وضرورة طلب رضاها وبرها, والتأكيد علي أن هذا الواجب من أعظم الواجبات التي يبتغي بها المرء وجه الله تعالي. فذكر عيسي عليه السلام يشير إلي دور السيدة مريم أمه في نشأته ورعايته وما كان من تحدثه في المهد دفاعا عنها, قال تعالي:فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا.قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا, مريم:29-32], وفي إجابة دعاء أم جريج عليه مع كونه شغل عنها بصلاته ما يفيد أن إجابة طلبها وبرها مقدم علي نوافل العبادات خاصة إن علم الإنسان تأذي والدته بعدم إجابة طلبها. وفي دعاء المرأة في القصة الثالثة لولدها أن يعطيه الله تعالي ما ظنته خيرا له ويصرف عنه ما ظنته شرا له إشارة إلي شدة حرص الأم علي ولدها ورعايتها له وطلبها لصلاحه في الدنيا. ويدلنا رد طفلها عليها بعكس ما دعت به علي أن نفوس أهل الدنيا تقف مع ظواهر الأمور ويطلبون عادة الخير في الدنيا, أما أهل الحق فإنهم يرون ما لا يراه الناس فيطلبون صلاح الآخرة; ومثل ذلك قوله تعالي في شأن قارون وقومه:فخرج علي قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا, القصص79-80]; ومعرفة المؤمن بهذا الأمر تجعله ذا قلب راض بما يأتيه به الله, وإن بدا علي صورة غير التي يحب, وصدق الله إذ يقول:وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون, البقرة:216]. ومما يستفاد أيضا من القصة أهمية اللجوء إلي الله تعالي عند الشدائد, وهذا اللجوء لا يكون بمجرد القول أو القصد; بل يضاف إلي ذلك العبادة, إذ هي الطريق إلي استحضار معيته تعالي واستجلاب نصرته, وصدق الله إذ يقول: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين, البقرة:153], وفي الحديث عن حذيفة قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلي,سنن أبي داود35/2], وحزبه أي نزل به مهم أو أصابه غم. قال الإمام النووي: الله تعالي يجعل لأوليائه مخارج عند ابتلائهم بالشدائد غالبا... وقد يجري عليهم الشدائد بعض الأوقات زيادة في أحوالهم وتهذيبا لهم,شرح صحيح مسلم108/16]. فاللهم علمنا ما جهلنا وانفعنا بما علمتنا وهب لنا فهما يهدينا إلي سواء السبيل. المزيد من مقالات د. علي جمعة