إذا كان استهتار بعض الأجانب بالمصريين خطأً، فاستهتار المصريين ببعضهم خطيئة. استهتار الغير بنا مرفوض لكنه يستفز أفضل ما فينا. يجمع صفوفنا ويوحدنا ويحشدنا للرد عليه. أما استهتارنا ببعضنا فأشبه بحرب أهلية صامتة، يستخف فيها الجميع بالجميع ولا يطيق أحد فيها أحداً ليزداد الشقاق ويتضاعف الشك ويسود الاستخفاف بالمشاعر والمطالب والحقوق لينشأ واقع اجتماعي مؤلم لا يحترم ولا يُقدّر الناس فيه بعضهم. وهو واقع لا يمكن إنكار وجوده في بلدنا، نتمنى أن نجابهه وأن نغيره لأن انتشار الاستهتار يهدد سلامة العقد الاجتماعي بين المصريين إلى أبعد الحدود. استهتار الآخرين بنا أمر لا يمكن قبوله. فمن يهددنا بقطع المياه عن بلدنا أو يروج لجماعات الإرهاب في بلدنا او ينشر دعايات سوداء عن بلدنا إنما يستهتر بنا ويستخف بمشاعرنا. وكثيراً ما واجهت مصر استهتار الغرباء ببراعة مدعومةً برأي عام يعتبر لغزاً لمن يتأمل فيه. فهو حساس للغاية أمام التدخل في شئون بلده، موحد ومتراص في وجه الأغراب الذين يعيبون في مصر. لكنه ما يلبث أن ينقسم على نفسه حينما ينسحب إلى الداخل لنرى صوراً لا تصدق من إستهتار المصريين ببعضهم لا تترك مجالاً واحداً للحياة إلا وظهرت فيه. فالمجتمع يشعر باستهتار الدولة به وبحقوقه، كما تستهتر أطياف منه ببعضها البعض. والدولة تشكو من إستهتار المجتمع بملكوتها واستخفافه بهيبتها، كما تشكو بعض أجهزتها من استهتار أجهزة أخرى بوجودها وبدورها. لقد بات استهتار المصريين بالمصريين أشد خطراً من استهتار الأجانب بالمصريين. فالأخير يُجمّعنا بينما الأول يُمزقنا. استهتار الغير بالمصريين قد يؤرق أما إستهتار المصريين بالمصريين فيفرق. والأمثلة لا عد لها ولا حصر. قصة غريبة مثلاً تلك التي نشرتها الصحف قبل أيام عن الحمير التي ذُبحت بالجملة لتباع لحومها للمصريين. أليس ذلك استهتاراً؟ وماذا عن المستشفيات التي تمرح فيها القطط والكلاب أو التي تتاجر طواقمها بأعضاء بعض مرضاها؟. أو بعض أساتذة الجامعات والمدرسين الذين يرغمون طلابهم على الدروس الخصوصية؟ أو بعض رجال الشرطة الذين يهينون المواطنين؟ أو سائقي الحافلات الذين يعرضون حياة الراكبين للخطر؟ ألم يكن صفر المونديال الشهير استهتاراً بكرامة المصريين؟ أليس ترك الناس بالساعات في العيادات استهتاراً؟ أوليس الروتين الحكومي الذي يُعطل مصالح الناس استهتاراً؟ أليس القتل باسم الدين لرجال الشرطة والجيش استهتاراً بالدين وبحق هؤلاء في الحياة؟ أليس التراخي مع الطعام الفاسد والمباني المخالفة استهتاراً بالصحة والسلامة العامة؟ ألا يعد إلقاء المخلفات في قلب النيل استهتاراً بالبيئة؟ ألا تمثل الألسنة العيابة في ثورة 25 يناير استهتاراً بتضحيات عظيمة للمصريين؟ الأمثلة عديدة يستطيع القارئ الكريم أن يضيف إليها ما يريد. لقد بات الإستهتار شائعاً بالطول وبالعرض. استهتار بالقانون وحقوق الإنسان، بالمرور والبيئة، بالصحة العامة وسلامة العقارات، بالمرأة والأقباط، بالصعيد والقرية، بالإنسان والحيوان والجماد. في المكاتب والشوارع والأندية الرياضية والمستشفيات. أصبح الحبل على الجرار ليتحول الاستهتار من قصص غريبة أو حالات مزعجة إلى قاعدة سلوك ونمط حياة وثقافة طاغية. وعندما يصل الاستهتار إلى حد لا يكاد مصري يسجل يومياته إلا ويرصد أمثلة عديدة من صوره عندها نصبح أمام مشكلة عامة تحتاج إلى سياسة عامة تعالجها. لكن تلك السياسة لا تبدو موجودة إلى الآن أو فعالة كما ينبغي إن رأى البعض أنها موجودة. فالاستهتار بالحياة والحقوق والآداب بات هو التوقع اليومي لكل مصري. إن لم يعان من استهتار الموظف وجده من البائع أو السائق أو في وسائل الإعلام أو المدرسة أو أية مناسبة للتفاعل مع الآخرين. ومثل هذا الانتشار يعني أن الاستهتار بات يقابل باستهتار مضاد وكأنها حالة درامية من الانتقام المجتمعي تلخصها العبارة البسيطة «مفيش حد عاد بيرحم». فالاستهتار لا يعبر فقط عن عدم تقدير للآخر، وإنما يصبح مع تكراره دليلاً على الإصرار على الانتقام منه إن لم يكن بالعنف المباشر، فبالاستخفاف والإنكار. لقد زرع الاستهتار فينا، وأسباب ذلك عديدة أهمها تراخي الدولة في القيام بوظيفتها الضابطة. فالمجتمع بلا سلطة تحاسبه يصبح فوضوياً. فلم تنشأ الدولة إلا لكي تمنع المجتمع بسلطانها من ممارسة عاداته المتوحشة التي كان يمارسها وقت أن كان أفراده يعيشون في حالة الطبيعة الأولى. لكن السلوك العام في مصر كثيراً ما يكشف بسبب تفشي الإستهتار عن مظاهر شبيهة بحالة الطبيعة الأولى وكأنه لا توجد لدينا دولة. بالطبع الدولة موجودة. لكنها لم تقم بوظيفتها الضابطة على أكمل وجه بعد. لكن لا السياسة ولا الدولة يتحملان وحدهما كامل المسئولية. فجانب من ثقافتنا ومن مخزوننا التاريخي مشبع بقيم جرى توظيفها على عكس مقصدها بشكل سهل للمستهترين استهتارهم مثل الرحمة والتسامح والعفو. هي قيم عظيمة لكنها تفقد معناها إذا ما شملت فاسد أو تساهلت مع مستهتر أو غضت الطرف عن مستخف. إن استهتار المصريين ببعضهم يصعب إنكاره أو تجاهله. الحديث عنه ليس جلداً للذات وإنما دعوةً إلى محاسبة واحترام الذات. إنه آفة تسارع إنتشارها في غياب المحاسبة الصارمة، ساعد أكثر على تفشيها طبيعة الشخصية المصرية التي تميل برغم حلاوة طباعها إلى تقديم سوء النية في الآخرين على افتراض حسن الظن فيهم. وهو ما يفتح الباب أمام تبادل الشكوك ورفض التجاوب ومن ثم الاستهتار برغبات ومطالب الآخرين. ولا يشكل استهتار المصريين بالمصريين خطراً على إستقرارهم الاجتماعي فقط وإنما قد يدعو غيرهم إلى الاستهتار بهم وبأحوالهم. فاستهتار الذات بنفسها مدعاة لاستهتار الغير بها. لذلك ستظل أقصر الطرق لوقف استهتار الغير بالمصريين أن يتوقف استهتار المصريين ببعضهم حكاماً ومحكومين، كباراً وصغاراً، أهل حضر وأهل ريف، علمانيين وإسلاميين. فالأمم لا تبقى ولا تتطور ما لم تحافظ على حد أدنى من الفضائل المدنية. لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات