مد فترة تسجيل الطلاب الوافدين بجامعة الأزهر حتى مساء الأربعاء    محافظ الإسماعيلية يوافق على تشغيل خدمة إصدار شهادات القيد الإلكتروني    حماس ترفض زيارة الصليب الأحمر للأسرى في غزة    وسائل إعلام أمريكية تكشف تفاصيل الاتفاق بين واشنطن وتل أبيب على اجتياح لبنان    ناصر منسي: هدفي في السوبر الإفريقي أفضل من قاضية أفشة مع الأهلي    ضبط نسناس الشيخ زايد وتسليمه لحديقة الحيوان    انخفاض الحرارة واضطراب الملاحة.. الأرصاد تعلن تفاصيل طقس الثلاثاء    أحمد عزمي يكشف السر وراء مناشدته الشركة المتحدة    صحة دمياط: بدء تشغيل جهاز رسم القلب بالمجهود بالمستشفى العام    للمرة الأولى.. مجلس عائلات عاصمة محافظة كفر الشيخ يجتمع مع المحافظ    "مستقبل وطن" يستعرض ملامح مشروع قانون الإجراءات الجنائية    فعاليات الاحتفال بمرور عشر سنوات على تأسيس أندية السكان بالعريش    بيسكوف: قوات كييف تستهدف المراسلين الحربيين الروس    بعد 19 عامًا من عرض «عيال حبيبة».. غادة عادل تعود مع حمادة هلال في «المداح 5» (خاص)    «إيران رفعت الغطاء».. أستاذ دراسات سياسية يكشف سر توقيت اغتيال حسن نصر الله    كيفية التحقق من صحة القلب    موعد مباراة الهلال والشرطة العراقي والقنوات الناقلة في دوري أبطال آسيا للنخبة    الأربعاء.. مجلس الشيوخ يفتتح دور انعقاده الخامس من الفصل التشريعي الأول    للمرة الخامسة.. جامعة سوهاج تستعد للمشاركة في تصنيف «جرين ميتركس» الدولي    ضبط نصف طن سكر ناقص الوزن ومياه غازية منتهية الصلاحية بالإسماعيلية    مؤمن زكريا يتهم أصحاب واقعة السحر المفبرك بالتشهير ونشر أخبار كاذبة لابتزازه    تفاصيل اتهام شاب ل أحمد فتحي وزوجته بالتعدي عليه.. شاهد    الرئيس السيسي: دراسة علوم الحاسبات والتكنولوجيا توفر وظائف أكثر ربحا للشباب    الأمن القومي ركيزة الحوار الوطني في مواجهة التحديات الإقليمية    القاهرة الإخبارية: 4 شهداء في قصف للاحتلال على شقة سكنية شرق غزة    أمين الفتوى يوضح حكم التجسس على الزوج الخائن    قبول طلاب الثانوية الأزهرية في جامعة العريش    كيف استعدت سيدات الزمالك لمواجهة الأهلي في الدوري؟ (صور وفيديو)    محافظ المنوفية: تنظيم قافلة طبية مجانية بقرية كفر الحلواصى فى أشمون    مؤشرات انفراجة جديدة في أزمة الأدوية في السوق المحلي .. «هيئة الدواء» توضح    حدث في 8ساعات| الرئيس السيسى يلتقى طلاب الأكاديمية العسكرية.. وحقيقة إجراء تعديلات جديدة في هيكلة الثانوية    "طعنونا بالسنج وموتوا بنتي".. أسرة الطفلة "هنا" تكشف مقتلها في بولاق الدكرور (فيديو وصور)    رمضان عبدالمعز ينتقد شراء محمول جديد كل سنة: دى مش أخلاق أمة محمد    التحقيق مع خفير تحرش بطالبة جامعية في الشروق    "رفضت تبيع أرضها".. مدمن شابو يهشم رأس والدته المسنة بفأس في قنا -القصة الكاملة    تأسيس وتجديد 160 ملعبًا بمراكز الشباب    إنريكى يوجه رسالة قاسية إلى ديمبيلى قبل قمة أرسنال ضد باريس سان جيرمان    هازارد: صلاح أفضل مني.. وشعرنا بالدهشة في تشيلسي عندما لعبنا ضده    وكيل تعليم الفيوم تستقبل رئيس الإدارة المركزية للمعلمين بالوزارة    5 نصائح بسيطة للوقاية من الشخير    هل الإسراف يضيع النعم؟.. عضو بالأزهر العالمي للفتوى تجيب (فيديو)    20 مليار جنيه دعمًا لمصانع البناء.. وتوفير المازوت الإثنين.. الوزير: لجنة لدراسة توطين صناعة خلايا الطاقة الشمسية    المتحف المصرى الكبير أيقونة السياحة المصرية للعالم    تم إدراجهم بالثالثة.. أندية بالدرجة الرابعة تقاضي اتحاد الكرة لحسم موقفهم    «حماة الوطن»: إعادة الإقرارات الضريبية تعزز الثقة بين الضرائب والممولين    طرح 1760 وحدة سكنية للمصريين العاملين بالخارج في 7 مدن    تواصل فعاليات «بداية جديدة» بقصور ثقافة العريش في شمال سيناء    اللجنة الدولية للصليب الأحمر بلبنان: نعيش أوضاعا صعبة.. والعائلات النازحة تعاني    نائب محافظ الدقهلية يبحث إنشاء قاعدة بيانات موحدة للجمعيات الأهلية    فرنسا: مارين لوبان تؤكد عدم ارتكاب أي مخالفة مع بدء محاكمتها بتهمة الاختلاس    أفلام السينما تحقق 833 ألف جنيه أخر ليلة عرض فى السينمات    5 ملفات.. تفاصيل اجتماع نائب وزير الصحة مع نقابة "العلوم الصحية"    برغم القانون 12.. ياسر يوافق على بيع ليلى لصالح أكرم مقابل المال    إنفوجراف.. آراء أئمة المذاهب فى جزاء الساحر ما بين الكفر والقتل    مدير متحف كهف روميل: المتحف يضم مقتنيات تعود للحرب العالمية الثانية    «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف إعانة شهر أكتوبر للمستحقين غدًا    التحقيق مع المتهمين باختلاق واقعة العثور على أعمال سحر خاصة ب"مؤمن زكريا"    الأهلي يُعلن إصابة محمد هاني بجزع في الرباط الصليبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا يا أنا
بيضاء و أسود وعشق ممنوع
نشر في الأهرام اليومي يوم 11 - 06 - 2015

أزهار الشتاء الباريسي زرقاء اللون تختلط بلون أحمر يريد الإفصاح عن نفسه؛ لكن نتف الثلج الباردة تقف حائلا بينه وبين الظهور . همست لنفسي « لا يملك اللون الأحمر شجاعة «جابريلا» ابنة قرية «سان بيتر» بولاية فلوريدا الأمريكية والتي عاشت عدة أعوام من الانتظار حتى تبلغ الحادية والعشرين كي تنظر في المرآة وتقول لنفسها «الآن أستطيع ترك عائلتي بدعوى استكمال الدراسة بالسربون
، ثم أهمس في أذن الحبيب مارتن سيدني : أنا لك للأبد ولا حياة لنا في سان بيتر الملعونة «أما الحبيب الأسود مارتن سيدني فقد حلم بها كثيرا ، لكن كيف لمدرس لغة فرنسية شاب أن يتقدم إلى فتاة بيضاء ليدعوها إلى التعارف؟. وإستطاعت العيون اللامعة بفعل الموصلات العصبية المسماة بالأندورفين التي يفزرها المخ أن تجري حوار الإندماج المكتمل بين روحين وجسدين قررا الاتحاد أبدا .
ولمن يسأل عن كيف تعمل تلك الموصلات العصبية بالمخ وكيف تتحكم في ميلاد الحب ، يمكنه أن يسمع من د. احمد عكاشة العالم النفسي الكبير الدارس لكيمياء المخ قوله الأثير بأن السماء لا تحاسب عاشقا لأنه بشكل أو بآخر غير مسئول عن جنون العاطفة، ويستطيع أن يضيف إلى ذلك الحقائق العلمية الرصينة التي خرجت من أبحاث د. طارق علي حسن أستاذ الغدد الصماء بطب الأزهر وأودعها في كتابه عن تلك الغدد الصماء وهو الكتاب الذي تعتبره عديد من أقسام الأمراض الباطنية في العالم هو الكتاب المقدس لدراسة الغدد وكيفية عملها وتآزرها الموسيقي ؛
حيث أثبت بما لا يترك مجالا لأي شك بأن الخلية البشرية الحية تختلف في شكلها ووظائفها عن الخلية التي يدرسها طلبة الطب والمستخرجة من جثث التشريح ، فالدفقة الحيوية للخلية الحية لا يمكن معرفة آفاقها ، خصوصا مجموعة خلايا غدة الثايموس ، تلك الموجودة بين العنق وبداية القفص الصدري ، ولها مهمة محددة تبدأ منذ الميلاد ثم تنتهي عند البلوغ ، تلك المهمة هي تلقين وتدريب كل خلية في جسدك على أنها تخصك وحدك وليست خلية كائن بشري آخر. وهكذا يصبح كل عضو فيك هو مملوك لك وحدك ، وهذا يعني أن إعداد خلايا مخك للعمل موكول لك شخصيا، وفي خصوصية علاقتك بالجنس الآخر؛ فخلايا المخ تبدأ في تحضير صورة من مجموع الصور التي مررت بها من تجارب التعاطف أو التنافر معها منذ ميلادك . وعادة ما تكون الحبيبة الأولى التي ينبض لها القلب هي الكائن الأنثوي المكونة صورته كنتيجة تراكم صور الأم والخالة والجارة وبنت الجيران وزميلة روضة الأطفال والمعلمة الأولى في المدرسة والخادمة الشابة في بيتك أو في بيت الجيران ، ونجمة السينما التي بدت حنونة وطيبة أو مثيرة وعارضة أنوثتها في شاشة خيالك . وبالمثل عند الفتاة ، هناك الأب والعم والجد وابن الجيران والشقيق وسائق سيارة المدرسة أو حتى بائع الجرائد إن كان طيبا وناولها الجريدة لتصل إلى يد أبيها وهو مبتسم ليقابلها الأب بابتسامة . ويمكنك حين تصل إلى هذه السطور أن تدعو بالشفاء للدكتور طارق على حسن من آثر حادث سقوطه بمنزله فأحدث ذلك السقوط شرخا في واحدة من فقرات ظهر هذا العالم الطبيب الفنان الذي وضع أساس العمل بدار الأوبرا المصرية ، فضلا عن دراساته لأمراض «الطب» في مصر المحروسة ، حيث يندر وجود فريق متكامل للتعامل مع الإنسان حين يشكو من ألم أو مرض لأن البعض حول الطب إلى سلعة ، فسقط الطب تحت عجلات البحث عن الثروة ، وأصبح الطب سلعة تأخذ منها على قدر مالديك من أموال ، كما أن عديدا من أصحاب الأسماء الكبيرة في دنيا الطب صاروا مجرد سماسرة لشركات الدواء العابرة للقارات ، مما يربك مفهوم الصحة والمرض .
وطبعا لا يمكن نسيان ما علمه لي هذا الفياض بالعلم والحكمة صديق أيامي وعالم التصوف النقي أستاذ الطب النفسي محمد شعلان ، وهو ما أتمنى له الشفاء مما يعانيه من أمراض شرسة ، علمني الرجل الكثير من حقائق المخ البشري ، حيث كشف بالبحث والتجربة والدراسة أن كل خلية بالمخ هي مخ قائم بذاته ، فكل خبرة تمر بالكائن البشري يتم تخزينها بنتائجها وظروفها في كل خلية بالمخ ، وكان يشرح لي ذلك حين أصابني رعب هائل عندما اصيب شريان جانبي في رقبة الفنان الرسام جمال كامل ، وكان الرعب بسبب إحساس كتاب ومحرري روز اليوسف بأن فقدان جمال كامل لقدرة الرسم قد تكون نتيجة لانسداد الشريان الموصل للدم إلى المخ فتموت قدرة المخ على الرسم والتلوين ، لكن محمد شعلان هدأ من روعي وروع العديد من الزملاء بأن فقدان جزء من المخ لقدرته على الإبداع ، فهذا لا يعني فقدان الفنان لقدرته على الأداء الفني، فالمخ يخزن خبراته في كل خلية به، ولذلك يمكننا إن نقول أن كل خلية بالمخ هي مخ مكتمل .ورأينا ذلك واقعا بعد أن قام جمال كامل من تلك الواقعة الشرسة ورغم انسداد شريان رئيسي بالرقبة تسبب في عجز عديد من خلايا المخ إلأ أنه أمضى سنوات عدة فيما بعد ذلك وهو يرسم بإبداع خلاب.
.................
وما مضى في الكلمات السابقة من حقائق علمية ، جاء كمقدمة لتذكر تجربة العشق العاصف بين جابريلا البيضاء الحلوة القادمة إلي باريس من ولاية فلوريد مع حبيبها مارتن سيدني ، وكان الاثنان هما جيراني في فندق فلوريدا الباريسي الزهيد السعر بشارع « سان دي دييه ، ويديره صاحبه مسيو سينييا ، صديق الكلب الذي يبدو شرسا ، لكنه وديع من فرط تعدد وجوه وروائح من يدخلون طلبا لغرفة في لليلة أو لأيام أو لشهور كما هي حالتي في تلك الرحلة الباريسية، ومثل حالة جابريلا ومارتن .
وكان الحوار الأول بيني وبين جابريلا عندما دق تليفون الدور الذي أسكنه وتوجد به غرفتي وبجانبها غرفة جابريلا ومارتن ، فدقت جابريلا باب غرفتي لتقول لي «السفارة تطلبك» ، وكان صوت المستشار السياسي للسفارة ، وهو من إكتشفت بعد أسابيع بأنه ضابط المخابرات المصري محمد شكري حافظ ، وكان صوته يبلغني بضرورة المجئ إلى السفارة حيث أرسل قصر الإليزيه موافقته على حضوري لمؤتمر الجنرال ديجول الصحفي ، ولابد من التفكير سويا في السؤال الذي سنرسله إلى إدارة الإعلام بالقصر الرئاسي ، فقلت على الفور « هو سؤال واحد : ما موقف ديجول من الصراع العربي الإسرائيلي ؟ « قال لي محمد شكري حافظ « لابد من صياغة السؤال بما يناسب عودة العلاقات المصرية الفرنسية التي ظلت مقطوعة منذ عدوان السويس 1956 ، وحتى عام 1963 ، السؤال سيتم تقديمه بإسمك فتعال»؟!.
هنا قالت جابريلا « أنت تستخدم في كلماتك العربية اسم ديجول .. هل أنت صحفي مهم إلى هذه الدرجة ؟” قلت « لست مهما كما تظنين فأنا لا أتقن الفرنسية ، ولكن الظروف شاءت وجودي بباريس ، وأنا الصحفي المصري الوحيد الموجود بباريس في هذا الوقت، وتريد السفارة أن تمد جسور تواصل مع القصر الرئاسي الفرنسي ، فكان الإختيار لي كي أحضر هذا المؤتمر للجنرال «قالت جابريلا» لعلك لا تعلم أن مارتن ساندي زوجي مولود في جزر المارتينك وهاجر إلى الولايات المتحدة ليعمل مدرسا للغة الفرنسية ، وهو يحمل الجنسية الفرنسية التي يكرهها لأنها جنسية مزيفة جاءت نتيجة احتلال فرنسا لجزر المارتينك ، وجاء للولايات المتحدة ناسيا أن لون بشرته الأسود سيضعه في عداد الملونين المكروهين تماما من قبل البيض الأمريكيين «.
قلت بوضح شديد « قبل أن أسمع منك ذلك كنت أخطئ الظن باعتقاد خاطئ أنك مجرد فتاة بيضاء وقعت أسيرة للجاذبية الجسدية لشاب أسود، وهو ما يعتبره بعض من أطباء النفس في الولايات المتحدة نوعا من الاضطراب النفسي وهو ما حدثني عنه أستاذ علم نفس مصري تخرج من ستانفورد الجامعة الأمريكية الكبيرة هو الأستاذ الدكتور سعد جلال، وكيف أن بعضا من النساء البيض بالولايات المتحدة يذهبن للعلاج النفسي نتيجة اشتهاء الواحدة منهن لرجل أسود». ضحكت جابريلا بأنوثة تعلم أن كل ما فيها هو نداء حيوي لعمق امرأة تعلم أن الأنوثة فرحة ليس فيها ما يستدعي أي إحساس بالذنب ، على الرغم من الاغتراب الذي أرادته لنفسها بعيدا عن محل ميلادها « قرية سان بيتر بولاية فلوريدا ، تلك القرية التي شاءت ظروفي بعد مرور سنوات عديدة على لقائي بجابريلا أن أزورها لألتقي بصديق عمري الفنان المصور الرسام بسمي ميلاد إبراهيم الذي يمكن حسابه على أساس أنه واحد من سادة اختراع ألوان لم تعرفها العين من قبل ، وكان من يقودني إلى تلك القرية صديق عرف التصوف عن طريق عطاء الغير دون طمع منه مما في أيدي الغير وهو جراح التجميل فؤاد بشاي ، وهو من عمل كطبيب في سجون نيويورك في سنوات هجرته الأولى ، وهو من يضحك كلما مرت أمامه امرأة بيضاء بصحبة شاب أسود ، وعندما تسأله عن سبب الضحك ، سيروي لك كيف أن الرجال السود الذي قابلهم كطبيب سجن يتميزون بفحولة يعوضون بها مشاعر القهر الذي عانوه طويلا كملونين يعيشون في مجتمع يصر على التمايز . وعندما يسمعنا بسمي في هذا الحوار يعلق «البهيمية التي يفرضها الأبيض على الأسود تنتقل كميزة عند المرأة البيضاء» وغالبا ما يضحك بسمي بعدها بضحكته الرقراة الودود . وطبعا كانت زيارتي لقرية سان بيتر لها هدف أساسي هو زيارة متحف أعظم مجنون عشقناه نحن الثلاثة ألا وهو سليفادور دالي حيث توجد قرابة مائة لوحة اشتراها أحد أثرياء تلك القرية وأقام لها متحفا صغيرا يزدحم طوال الوقت بالراغبين في مشاهدة إبداع رجل عشق امرأة واحدة ، وما إن فقدها حتى أجرى مسابقة بين بنات أوربا لاختيار أي شبيهة لها ، واختار أكثر من واحدة كي يضمن لنفسه استمرار الحياة ولو مع إنسانة تشبه المرأة التي أحبها . وتزدحم قرية سان بيتر كمعظم قرى ومدن ولاية فلوريدا بالهاربين من أمريكا اللاتينية ، لأن البؤس هناك عارم وقاس ، وكان من هؤلاء الفارين والد جابريلا الأبيض اللون وهو من تزوج من طبيبة أسنان هاربة أيضا مثله ولونها أبيض أيضا، وافتتح مطعما وكازينو راقص ، وكان اللون الأبيض هو إيذان بقبول الاثنين في مجتمع يلعب فيه لون البشرة كجواز سفر للبقاء على الأرض الأمريكية دون احتقار أو «قلة قيمة» ، فعلى الرغم من أن الرئيس جون كيندي قد حكم الولايات المتحدة وأمر بالمساواة بين السود والبيض ، وجعل دخول التلاميذ السود لمدارس البيض تحت حراسة البوليس إلا أن العنصرية كانت قد أخذت مسارا أعمق ، وكانت العيون التي تستكشف لون أي إنسان هي بوابة الدخول لأي حوار بين أبيض وأسود . وما إن تم اغتيال جون كيندي برصاصة قاتلة حتى انفرجت ملامح البيض بفرح مختلس ، يشوبه حزن على بقاء العنصرية تحت جلد أغلب الأمريكيين . ومن طبيعة النفس البشرية إن المهاجرين إن كانوا بيض البشرة فهم أكثر عنصرية من البيض الأمريكيين وما أن دخلت جابريلا المدرسة ووصلت إلى المراهقة ثم الجامعة حتى كان قلبها قد سافر إلى عشق مارتن الأسود ، وقد حدث ذلك بينما كان دم كيندي مازال ساخنا على سطور التحقيقات حين التقيت أنا بجابريلا وساندي في ذلك الزمن الذي أستحضره الآن في مرآة تذكارتي وهو أيام ديسمبر الأخيرة من عام 1963.
قالت جابريلا « أنت مصري إذنولك علاقة بالسياسة ، لذلك سيسعد حبيبي مارتن عندما تلتقيان فقد جمعته صداقة مع واحد ممن عشقوا أن يكون الإنسان عربيا وأفريقيا وهو الطبيب النفسي فرانز فانون .وهو من توفى بعد أن شاهد علم الجزائر يرفرف عاليا».
وكان مجرد نطقها باسم فرانز فانون كفيل بأن يجعل القلب يزدحم بشجن تذكار إنسان قام بالتأثير في أجيال ممن عشقوا فكرة تحرر بلادهم من أي تبعية ، وهو صاحب الكتاب الأشهر والذي يمثل بالنسبة لجيلي كيانا فكريا لا نظير له ، خصوصا بعد أن قرأنا ما كتبه الفيلسوف جان بول سارتر كمقدمة له ، حين أعلن أن الولايات المتحدة ليست إلا وريث قذر لاستعمار متوحش وقذر أيضا ألا وهو استعمار عدد من الدول الأوروبية لبلدان أفريقية واسيوية ولاتينية «قالت جابريلا» فرنسا وإنجلترا تكالبت كل منهما على بعض من الجزر القريبة من أمريكا اللاتينيه وقامت باحتلالها وادعت منح الجنسية لسكانها ، بشرط أن ينسى أهل تلك الجزر هوية وثقافة أوطانهم وينضمون إلى دنيا التبعية للندن أو باريس . وفي حالة جزر المارتينك ، تظل فرنسيا طوال ما أنت مقيم في جزيرتك أما إن حضرت إلى باريس فأنت أسود ، وحتى لو كانت بشرتك بيضاء ؛ فأنت على أحسن تقدير من ذوي الأقدام السوداء أي أبيض مولود بأي بلد كان محتلا من فرنسا .
.................
أسرعت إلى السفارة حسب دعوة مستشارها السياسي ليقدم لي صديقة عمري على أساس أنها سوف تصحبني مع المستشار صلاح بسيوني إلى قصر الإيزيه كمترجمة لي ، وكان السفير جمال منصور حاضرا اللقاء ، فلم أجد مفرا من القول « لقد أحضرتم لي السبب الوحيد الذي جئت باريس من أجله ، بل دعوني أقول إنها السبب الوحيد الذي أعيش من أجله ، وعلى ذلك فأنا أقبل المهمة وهي الذهاب إلى الإليزيه ، فعن نفسي أنا لا أحب الجنرال ديجول لأني أعلم أنه يجيد إخفاء عنصريته ، فهو يتحدث عن العرب بكلمات غير لائقة كما شرح لي جيل مارتنيه رئيس تحرير نوفيل أوبرفاتير ، حيث يرى أن الدول التي استقلت عن فرنسا وأخرجت قواتها من هناك ، ستجثو ذات يوم قادم على أقدامها طالبة عودة الاستعمار بأي شكل. وهو صاحب المقولة الشهيرة : نحن نساعد الضعاف بالمعونة ، وتقوم المعونة بما يفوق خيال أي قوة عسكرية ، فهي تضمن تعويد البلد المستقل على ألا يكون مستقلا . وأبناء المستعمرات الذين تعلموا في الغرب لن يعرفوا الفكاك من نمط الحياة الأوروبية «. وعلى باريس أن تلعب دور عاصمة الحرية ، فهنا يصرخون كما شاءوا وبعد الصراخ يذوبون في الحي اللاتيني، والمتفوق منهم قد يبحث لنفسه عن عمل في فرنسا وعلينا أن نستفيد منه .
وطبعا كان ديجول صائب الرؤية في كثير مما قاله ، ولكن قلبي الشاب عندما كنت في الرابعة والعشرين لم يكن يقبل مثل تلك الآراء ، خصوصا وأنا ابن عصر جمال عبد الناصر الذي جعل من القاهرة هي بيت الحالمين بحرية بلادهم والعاملين على إتمام السيطرة على مقدراتها، إلى أن عاجلته الولايات المتحدة بدراسة نقاط الضعف فيه وأوقعت بنا الهزيمة الشرسة في يونيو 1967 ، فقال ديجول « التخطيط أمريكي والتنفيذ إسرائيلي . ومصلحة فرنسا أن تقف بجانب العرب ، فعندهم البترول ، وعندما يتمردون على القبضة الأمريكية يمكن أن تكون يد فرنسا ممدودة بالصداقة»
.................
وعلى المستوى الشخصي لم أكن مهتما بالجنرال أو بقصر الإليزيه ، كنت مهتما بمعرفة آفاق الرجل الأسود ابن جزر المارتينك مارتن الذي يعيش في غرفة مجاورة لغرفتي مع حبيبته جابريلا ذات الأنوثة التي تبدو صاخبة لا يلمسها أي إحساس بالذنب ، لأنها عاشقة للحياة .
عدت إلى الفندق الذي يضم في الدور المسحور فيه كافتيريا تعمل فيها زوجة صاحب الفندق وأبناؤه الثلاثة ، حيث يقدمون المشروبات وسندويتشات كبدة الإوز ، أو الجبن ، ويأتون بالخبز الفرنسي طازجا له طعم جميل .
وما إن رآني مارتن حتى قال « أنت تعلم أني أعمل هنا معلم قيادة سيارات في المدرسة التابعة للبلدية، وهي الوظيفة التي وجدتها وتكفل لي الدخل الذي يكفيني مع قائدة أيامي الحبيبة جابريلا ، وهي تعمل على الآلة الكاتبة وتدرس المحاسبة لعلها تعثر على وظيفة أفضل . ولعل عقلك وقلبك يزدحمان بأسئلة عن زواج امرأة بيضاء برجل أسود . ولأنك مصري أفريقي لابد أنك تعرف شيئا عن فرانز فانون فيلسوف التحرر ابن بلادي جزر المارتينك ، وكان صديقا لي . وأعلم رحلته كاملة .
قلت لمارتن « أما عن الحب بينك وبين جابريلا فهو أمر طبيعي كحادث غير طبيعي . ولعلك تلحظ العيون الفرنسية التي تحيط بك وفيها السؤال العاري من الإحساس « كيف لهذه الحلوة قدرة على استئجار رجل أسود لتروي رغباتها ؟» لأن الغالب الأعم هنا في باريس أن تصحب الثرية العجوز شابا أسود لتستخدمه كما يستخدم الرجال بنات البغاء . ولا أحد يملك وقتا أو قدرة على الفهم إن لكل قصة حب قانونها الخاص ، ففرانز فانون هذا الطبيب النفسي الذي حارب مرة إلى جانب الفرنسيين في حرب تحريرها من احتلال الألمان لها ، وعندما تفوق في دراسة الطب النفسي أرسلوه إلى الجزائر ليدرب جنود الإحتلال الفرنسي على عدم الإحساس بالذنب عندما يقتلون عربيا جزائريا ، فانضم إلى المقاتلين الجزائريين ، وأصبح سفيرا للجزائر في أكثر من دولة أفريقية ليعمل على تهريب السلاح للجزائريين ، وهو أيضا مثلك تزوج من إمرأة بيضاء أحبته، وأنجب منها طفلا, والزوجة والابن يعيشان الآن بالجزائر في رعاية الحكومة الجزائرية ، وهو قد صعدت روحه إلى خالقها في ديسمبر عام 1961 بعد إصابته بسرطان الدم . وأشك أنا شخصيا أن الولايات المتحدة التي ذهب إليها يبحث عن العلاج فيها هي من أجهزت عليه ، لأنه مفكر أسود نادر.
صافحني مارتن وناداني بالقول « أنت مؤمن أن لون البشرة لا يصنع أدنى فارق « . قلت « الذي يستحق الاحتقار ، هو من يسرق قارات بأكملها ثم يدعي تفوقه لمجرد أن بلاده المثلجة لا تنتج بشرة قوية تحتمل الحرارة كأفريقيا التي تنتج البشرة السوداء من أجل مقاومة الحرارة ليس إلا . ودعني أحكي لك أني عندما زرت متحف اللوفر راقبت كناسا أبيض يحدث كناسا أسود قائلا له « لأنك إفريقي أسود ، فربع مخك لا يستوعب . ولذلك سأكرر عليك هذا الأمر :إن عليك أن تكنس الشارع من أوله لآخره ، وسأراقبك « فقال الكناس الأسود : ولكن نصف الشارع هو مسئوليتك وأنت الذي يجب أن تكنسه، فقال الكناس الأبيض : كيف تحدث رجلا أبيض بهذه الطريقة ؟ إن عليك أن تنفذ أوامري . وهنا قفز الكناس الأسود على أكتاف الكناس الأبيض صارخا فيه سأركبك كحيوان وأجبرك على كنس كل الشارع . فصرخ الكناس الأبيض : سأنفذ ما تأمر به فقط إنزل من على كتفى .
فنزل الكناس الأسود من على كتفى الكناس الأبيض ، ومضى الكناس الأبيض يكنس الشارع من أوله إلى آخره .
وضحكنا نحن الثلاثة جابريلا ومارتن وكاتب هذه السطور ، قائلا « سأكتب ذات نهار قصة تلك السهرة وسأختار لها «عنوان بيضاء وأسود وعشق ممنوع ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.