فى مثل هذا اليوم ، فى التاسع عشر من شهر مايو 5691 ودعت مصر ناقدا من أكبر نقادها الذين ملأوا حياتها بالعلم والمعرفة، بفضل جهوده الحية، وجهود عدد كبير من الكتاب والنقاد المعاصرين، التفوا حول مندور بصفته شيخ النقاد أو عميدهم، وصاحب الكلمة العليا التى ينصت إليها كل المنتمين لعالم الكلمة والإبداع. ورغم هذه المكانة الرفيعة التى كان الأدباء يضعون فيها مندور، فلم يكن يجد حرجا وهو يوجه الكتابة الأدبية فى بلاده، أن يقرأ مقالاته وهى مخطوطة على الآخرين، ولو كانوا من تلاميذه، قبل أن يدفع بها إلى النشر. ومن يتصفح أعمال محمد مندور المؤلفة والمترجمة التى صدرت فى حياته وبعد رحيله، يلمس بوضوح تعدد واتساع المجالات التى ضرب فيها بتمكن، فى التراث والحضارة والآداب. ومع هذا فلم تشغله الثقافة عن السياسة، ذلك أنه كان حاضرا فى كل المعارك الوطنية المتصلة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، كما كان حاضرا فى كل معاركها الأدبية، حاملا ميزانه الجديد الذى يضع الأمور بذوقه الفنى فى نصابها الصحيح. وخلال هذا التاريخ الذى لم يزد على ربع قرن، من أول أربعينيات القرن الماضى حتى منتصف الستينيات، أى منذ عودته من البعثة الفرنسية حتى رحيله.. تعرض مندور لكثير من المتاعب من النظامين: الملكى والجمهورى. وهذه مفارقة مؤسية يعرفها جيدا جيل كامل من المثقفين، لم تكن معاناته من السلطة بعد ثورة 2591 تقل عن معاناته من السلطة قبلها، فى ظل الثورة والعهد الجديد. غير أن هذه المتاعب لم تفض به إلى العزلة، ولم تحل دون أدائه لرسالته المناهضة للاستعمار والرجعية، ولا مَسَّت من قريب أو من بعيد انحيازه لقوى الديمقراطية الاشتراكية، المدافعة عن الحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم. ولم يكن محمد مندور فى دفاعه عن هذه القضايا يطالب فقط بحق الفقراء فى رعاية الدولة، وحق الجاهل فى أن يتعلم، بل كان يؤمن بأن الدولة ملزمة بتعويض هؤلاء عن تقصيرها نحوهم، الذى أدى بهم إلى هذا الوضع، وإلى تأمينهم، كما هى ملزمة بالتدخل فى شئون الحياة للمحافظة على الملكيات الخاصة. ومقالات محمد مندور عن الأدب العربى الحديث، تهتم فى المحل الأول بحركات التجديد، اهتمامها بالأجيال التالية لجيل الرواد، خاصة فى الشعر والمسرح، التى تعد دراساته عنها مراجع لا يستغنى عنها الباحث فى اللغة العربية وآدابها، ولا فى اللغات والآداب العالمية. ومندور يعرف جيدا أثر الآداب الأجنبية فى إثراء الآداب القومية، وتقوية عودها، ويشغل الأدب المقارن والترجمة نسبة عالية من إنتاجه. وفى إحدى مقالاته يعترف مندور بأنه لولا دراساته للآداب اليونانية واللاتينية والفرنسية التى تلقاها تحت سماوات الغرب لما تمكن فى 3491 من إعداد دراسته المحكمة عن النقد المنهجى عند العرب، التى كانت بمثابة فتح جديد فى تناول النقد العربى القديم، انتفع به كل من كتب عن هذا التراث النقدى والأدبى، دون أن يستطيع أحد أن يتجاوزه فى أحكامه عليه وبيان مواطن الخصوصية فيه، ولا وُجد من يسبقه فى تاريخنا بهذه الدرجة من العمق والشمول. ولقد حاول مندور أن يقدم دراسة شاملة عن النقد والنقاد المعاصرين، على غرار ما قدمه عن النقد العربى القديم، وبدأ بالفعل هذه الدراسة بالكتابة عن سبعة نقاد جُمعت فى كتابه «النقد والنقاد المعاصرون» (4691)، ولو امتد به العمر لاستكمل هذه الدراسة التى أراد بها تغطية النقد المعاصر، كما غطى النقد القديم. ويُذكر لمندور أيضا أن منهجه النقدى العام الذى دعمته ثقافته الغزيرة يقوم على البناء والتركيب، وليس على الجمع والتصنيف، وأن هذا المنهج لم ينشأ ويتحقق فقط من اطلاعه على الدراسات الأجنبية والأبحاث العالمية، وإنما ساهم فى تشكيله وتطويره ملكاته وتجاربه السياسية ومعارفه على الطبيعة فى حياته العملية المرتبطة بالشعب. وإذا كان مندور من النقاد الذين يحتفلون بالنص وقيمه الجمالية التى يتميز بها، فإنه لم يغفل فى نقده المضمون الفكرى والرؤية الأيديولوجية التى لا تقف عند الشكل وعناصره الداخلية، ولكن تلتفت إلى المنابع والأصول، من خلال التحليل والتفسير، مقدما دائما الطبع والفطرة على المحاكاة والتصنع، والعبقريات الفنية التى تتخطى القواعد على المواهب الضعيفة التى تتقيد بها. وحق المبدع فى التعبير يقابله فى نظر مندور حق الناقد فى تقييم هذا التعبير، لأن شخصية الناقد وقناعاته تختلف عن شخصية المبدع وقناعاته. والحقوق لكل منهما محفوظة، لا تتجزأ. وبهذا الحق يدعو مندور نقاد الأدب للكتابة عن الفنون التشكيلية التى تخضع كما يخضع الأدب للمبادئ الفنية نفسها، وتتراوح كالأدب بين الموضوعية والذاتية. ولم يرفض مندور مذهب الفن للفن، من منطلق أن العناصر الجمالية البحتة تثير فى المتلقى من المشاعر والأحاسيس ما يستحق أن نقدره، ولا ضير منه على أدبنا وفنوننا مادام أنه ينفى القبح وينشر الجمال، وهما من وظائف الإبداع الأساسية. أما تيارات اللامعقول والعبث الغارقة فى التشاؤم واليأس، فلم يكن مندور يتقبلها، لأنه رآها معادية للإنسان، كما رأى فى الرومانسية ميوعة وتهافتا عاطفيا وانغلاقا على الذات الفردية، يأتى على حساب الموضوع الذى يجب ألا تنفصل فيه ذات الفرد عن المجتمع. وعلى المستوى السياسى البحت، رأى مندور فى الديمقراطية الليبرالية تخليا عن التزام الدولة بالتشريعات التى يتعين عليها أن تصدرها باسم الأمة. وحين تتوافر الدراسات الكاملة عن مندور، سنجد أن كتابه النقدى الأول «فى الميزان الجديد» لا يفترق كثيرا فى مضمونه عن الكتب والمقالات التى نشرت له فى سنواته الأخيرة، متسمة بعمق الرؤية ونضجها. وقبل أن يرحل محمد مندور، كان النقد الأيديولوجى قد استولى على الساحة، ممثلا فى كتاب «فى الثقافة المصرية» (5591) لمحمود أمين العالم، وعبدالعظيم أنيس، مؤكدا مسيرة النقد الأدبى النظرى والتطبيقى، التى اهتدى إليها مندور بعد رحلة طويلة. وإذا كان هناك من يأخذ على مندور بسبب عمله فى الصحافة العجلة فى الكتابة، فمن المقطوع به أن هذه العجلة لم تؤثر على سلامة موقفه النقدى، أو تبتعد به عن دوائره الفكرية، ومبادئه الأساسية.