لم تكن مجرد زيارة عادية لدولة أوروآسيوية حيث تقع عند ملتقى غرب آسيا وشرق أوروبا، ولم يكن هذا الموقع هو مبعث أزمتها وإنما لمتخامتها حدود الإمبراطورية العثمانية العريقة، ومع تمدد العائلات على حدود أرمينياوتركيا، جاءت أسوأ أزمة إبادة فى التاريخ الحديث، ليقضى نحو مليون ونصف مليون شخص أرمنى نحبهم، ما بين تشريد وقتل وتعذيب وتهجير قسرى على أيدى الجنود العثمانيين، ما بين عامى 1915و1916، لتتولد أكبر مأساة فى تاريخ الأرمن الذين جعلوا من عاصمة بلادهم يريفان قبلة للوفود السياسية والإعلامية من شتى بقاع الأرض لتشاركهم احتفالاتهم بمئوية الإبادة. لقد تغير الزمان ولكن بقى المكان، هذا المكان الذى يمثل للأرمن ذكريات أليمة جعلت من صدورهم مقبرة كبيرة، يعشعش فيها الحزن بكأباته، حتى أولئك الذين نجوا من القتل، لم ينسوا ماضيهم وظلت حكايات الأجداد ساكنة فى ذكرياتهم لتجسد أحداثها فى مخيلتهم وكأنها "أحاديث البيانولا" ولكن يظللها السواد ويكسوها صوتا نحيبا. الحديث عن الأرمن الذين حباهم الله بخلقة مليحة وخفة ظل تعكس نقاءهم رغم أحزانهم الساكنة فى أجسادهم، لا يبدأ للأسف سوى بذكريات عن المذابح والاعتقال والتعذيب، ولكننا بقدر الإمكان سنتجاوز عن أحداث الإبادة التى عايشناه لحظة بلحظة بمجرد هبوطنا فى مطار يريفان الدولي، فأول لوحة مضيئة تذكرنا بمئوية الذكرى السوداء (1915-2015) .. مجرد إعلان للقادم بألا ينسى ما جرى لهذا الشعب، لنخرج الى الشارع، لنفاجأ بأن الذاكرة تسير أمامنا ووراءنا ويقع عليها بصرنا أينما كنا وحللنا، فكل إعلانات الطرق تقريبا تجسد ما عاناه أجداد هذا الشعب، وعلى سبيل المثال لوحة مكتوب عليها الرقم (1915) فى إشارة لسنة أولى إبادة ، الرقم واحد يمثله السيف، وتسعة عبارة عن حبل على هيئة مقصلة إعدام، والواحد الآخر يجسده بندقية، أما الرقم خمسة فجسدته المنجلة.. وليس آخرا اللوحة التى رسم وسطها طربوشا أحمر يعلو شاربا كثا، فى دلالة واضحة على مرتكب الجريمة. هذه لمحة سريعة عن بداية طريق، وأخره غير معروف لأصحاب المكان ولنا فى ذات الوقت، فاحتفالية المئوية أقيمت للتذكير بنحو مليون ونصف مليون قتيل، لم تهدأ أرواحهم بعد لعدم مثول الجانى أمام العدالة، فالمحكمة غائبة، والحكمة ليست حاضرة أيضا، لأن الأرمن حشدوا شعوب العالم للتضامن معهم فى مصابهم الجلل، ولكنهم لم يصيبوا هدفهم الأسمى باعتراف الدول اللهم ما نذر منها بالإبادة، رغم أنهم نجحوا كجاليات أجنبية وحكومة أيضا فى تحويل مسماها القديم " مذابح" الى "إبادة" وهى تسمية طالما سعوا لنيلها لتضاف الى موسوعة المعارف البريطانية. ومن مصر، ذهب وفد كبير – كنسى وسياسى وأكاديمى وصحفى وإعلامى - و يعد الثانى فى العدد بعد الفرنسي، كان على رأسه الأنبا تواضروس الثانى بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وبعض قيادات الكنيسة المصرية التى تعد إحدى أخوات الكنيسة الأرمنية فى إطار ما يسمى كنائس الشرق كما حكى البابا فى حديث اتسم بالود والمحبة والمعرفة. لقد سرد البابا تاريخ تكوين الكنائس الشرقية قبل 50 عاما تقريبا ولم تلتئم إلا فى ذكرى إبادة الأرمن المئوية حينما ضمت يريفان البطاركة فى لقاء تضامنى مع شقيقتهم الأرمينية. "لا يجب خلط المناسبة بالسياسة ، ويجب أن نفصل بين مواقف الحكومات ومواقف الكنائس ولا نخلط بين الاثنين، فالحكومات لها تقديراتها الخاصة طبقا للمصالح والسياسة ولا أتكلم عنها، اما على مستوى الكنائس فالأمر مختلف تماما ومشاركتنا فى المئوية إنما هى مشاركة كنسية كما أن هذا الاحتفال تأبينى، والكنيسة المصرية واحدة من الكنائس الشرقية القديمة، والمذابح التى حدثت للأرمن قبل مائة عام وراح ضحيتها مليون ونصف المليون شهيد هم شهداء عند الله"..هكذا وصف قداسة البابا تواضروس الثانى وجوده فى العاصمة يريفان للمشاركة بصفته الدينية فى الذكرى المئوية للإبادة ، على هامش لقائه مع الوفد المصرى فى مقر الكنيسة الأرمينية إحدى الكنائس الأرثوذكسية الشرقية بحضور البطريرك الأعلى كاركيرين الثانى بطريرك الأرمن. ولم تكن تلك الإجابة ردا فقط على غياب التمثيل المصرى الرسمى فى ذكرى المئوية للمذبحة الارمينية ، وإنما لإبعاد الحديث عن عالم السياسة بتعقيداته المتشابكة . حديث البابا انصب على الروحانيات وحكايات إنسانية كثيرة عن المحبة والتسامح والعمل باخلاص ، فكان السرد وديا تخللته ابتسامات وضحكات كثيرة، ورغم كل هذه الأجواءالإحتفالية ، فوجئ الجميع وأثناء حفل تكريم أقامه الأرمن على شرف الوفد فى مطعم "أرارات" أشهر مطاعم العاصمة ويحمل اسم الجبل الذى يفصل بين أرمينياوتركيا، بخلاف على الهواء مباشرة، إذ توترت الأجواء بعد موسيقات أرمينية شهيرة ورقصات فولكورية تعكس تاريخ هذا البلد المضياف على غرار فرقتى رضا والقومية للفنون الشعبية. لقد استمتع الوفد والحاضرون بوصلة شكر وامتنان من بعض أعضاء الوفد للدولة المضيفة تضامنا مع مصابها وأحزانها ، حكوا فيها نثرا عن معنى الوطن وقيمته ، وشعرا عن النجمة العالية فى السما عالية ولو تغير الزمان تجيله فى الأحلام بدر كامل بالتمام ليتم اهداؤها الى الشعب الأرمني، وروايات عن جارة أرمينية طيبة وكيف دافعت عن تصرفات الراوى الصبيانية عندما كان طفلا شقيا فى محافظته الدلتاوية ، وقصة عن زيجة أرمينية وكيف وقفت الزوجة بجانب زوجها فى بداية مشوار حياته لتكون عائلة الزوجة خير معين له ليتذكرها بكل خير ومحبة وود وعرفان. ولكن كما هى عادة الحبكة الدرامية فى الأفلام، يأتى موعدنا مع "لكن" وأه من هذه الكلمة فى مثل هذه الأوقات، لتنقلب الأجواء بوصول الميكروفون الى أيدى أحد أعضاء الوفد ليتحدث نيابة عن الكل بدون استئذان ويقحمهم فى مسألة جدلية بشأن عدم تمثيل مصر رسميا فى مراسم إحياء الذكرى المئوية لإبادة الأرمن، ليحاول بعدها عضو آخر تصحيح هذا الخطأ المتعمد ، خاصة وأنه لو كان المتحدث الأول تحدث عن نفسه فقط، لما دخلنا فى هذا الجدل وكنا تجنبنا المشكلة التى كادت تفسد الأجواء الاحتفالية، وهى احدى مشكلات الوفود الشعبية، إذ يسعى البعض للحديث باسم الكل ، ولكن ربما يكتب لهذا العضو إبداء مدى تعاطفه مع قضية الأرمن خاصة مع غياب التمثيل الرسمي. انتهى الحدث الذى استمر ثلاثة أيام كمنتدى كبير ضم وفودا لدول كثيرة ، وقد حاول متحدث إسرائيلى استغلال المناسبة لاتهام الإسلام بالعنف والإرهاب والتحريض على كره الآخر، وركزت معظم الكلمات على ضرورة تجنب حدوث وقائع إبادة أخرى فى أى مكان بالعالم،وأن هذا يتطلب ضرورة الضغط على تركيا للاعتراف بما اقترفه الجيش العثماني.. وجاء اليوم الثالث والأخير فى المناسبة صعبا جدا على الوفد المصرى على الأقل ، حيث شارك فى مسيرة تصل لنحو ثلاث كيلومترات تنتهى بالنصب التذكارى لضحايا الإبادة، لتحدث ما وصفه المصريون بخفة ظلهم ب"الإبادة الثانية" وكانت بحقهم هذه المرة، حيث هطلت الأمطار وبغزارة وقتها. انتهت مهمة الوفد الشعبى الذى لا ينفصل عن الدولة التى تشارك الأرمن محنتهم ، ويبقى أن نشير هنا الى ما ورد على لسان مصدر مصرى مسئول طالب تركيا بضرورة الاعتراف بوقائع إبادة الأرمن . فقبل أيام نصح هذا المصدر رئيس الوزراء التركى أحمد داود أوغلو، بأن يلتفت الى شأن بلاده الداخلى وما تشهده من قمع ممنهج لأوضاع حقوق الانسان وتضييق للحريات وإلقاء القبض على الصحفيين وإغلاق مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذى جعل تركيا محط انتقادات من مختلف دول العالم. كما لم يفت المصدر المسئول أن يطالب أوغلو بالتحلى بالشجاعة المطلوبة وأن تعترف بلاده بما ارتكبته من جرائم فى حق الشعب الأرمنى منذ قرن مضى.