ليس هناك صحبة جمعتها الأقدار والظروف منذ مرحلة الطفولة ومرورا بمرحلة الصبا، وانتهاءً بمغادرتنا لصعيد مصر وانتقالنا إلى القاهرة مثل الصحبة التى جمعت بين التلاميذ الخمسة - عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل ومحمد صفاء عامر وعبد الرحيم صالح وكاتب هذه السطور - فى مدرسة قنا الابتدائية لنتلقى دروس اللغة العربية معاً على يد الشيخ محمود الأبنودى والد عبد الرحمن، الذى غرس فينا من البداية حب هذه اللغة والتفوق فيها ودرسنا على يديه بدايات كتابة الشعر سواء كان بالعامية أو الفصحى، وكنا نتقابل معا ونحن فى طريقنا إلى المدرسة نتبادل أطراف الحديث ومراجعة دروسنا السابقة حتى ندخل المدرسة لنستعد لأى سؤال ممكن أن يطرحه الشيخ الأبنودى بالذات أو بعض المدرسين الآخرين، وكنا أيضاً نقف فى طابور الصباح لنغنى أناشيدنا الوطنية معاً، واشتدت بيننا المنافسة الجميلة ونتبارى فى حفظ دروسنا لنتفوق جميعاً، عندما أعلنت نتيجة الشهادة الابتدائية وجدنا أنفسنا من الأوائل واحتضن بعضنا البعض لنبارك لأنفسنا على هذا التفوق، ثم انتقلنا معاً إلى مدرسة قنا التى تضم المرحلتين الاعدادية والثانوية لنواصل فى حماس تفوقنا فى الدراسة الاعدادية، وكنا فى المساء نتجمع سوياً لنراجع دروسنا فى «شارع الجميل» الذى يقطن فيه محمد صفاء عامر، واستمرت هذه الصحبة بهذه الكيفية والألفة الجميلة، وكنا فى كثير من الظروف نلجأ إلى الشيخ الأبنودى فى بيته الكبير خلف المدرسة الابتدائية، لكى نراجع معه دروس اللغة العربية التى تلقيناها فى المرحلة الاعداية، وهنا ظهرت على بعضنا ملامح الكتابة فى اللغة العربية أو الشعر أو الأدب التى كان أساتذتنا يشجعوننا على ممارستها وعندما انتقلنا إلى الصف الأول الثانوى استطعنا أن نشترك معاً فى اصدار مجلة اسمها «مجلة قنا الثانوية» ويشرف على إصدارها استاذ اللغة العربية وهو ناظر المدرسة فى ذلك الوقت وتخصص الأبنودى فيها فى كتابة الزجل والشعر العامى أما أمل دنقل فقد لمع فى كتابة شعر الفصحى وظهرت عليه ملامح التفوق فى القصيدة الشعرية أما محمد صفاء عامر فقد تخصص فى كتابة القصة القصيرة التى تحول بعدها إلى كتابة السيناريو عندما انتقل إلى القاهرة، ومارست أنا كتابة الشعر أيضاً، وحدث أن أقامت مدرسة قنا الثانوية أول حفلاتها فى عيد الأم ليطلب منا ناظر المدرسة المشاركة فى كتابة القصائد التى نلقيها فى هذه المناسبة وسط جمهور حافل بكبار الشخصيات بالمحافظة وأولياء أمور الطلبة وكلف ناظر المدرسة الشعراء الثلاثة أمل دنقل والأبنودى وأنا بتجهيز ثلاث قصائد لإلقائها فى هذا الحفل وطلب منا تسليم نسخ هذه القصائد لمراجعتها قبل إلقائها فى الحفل، وكنا فى ذلك الوقت فى الصف الثانى الثانوى، وكان الشيخ الأبنودى حاضراً فى هذه المناسبة وطلب من ابنه المشاركة فى قصيدة يكتبها بالفصحى وليس العامية لأن الشيخ الأبنودى كان شاعرا كبيرا مشهودا له فى قنا بكفاءته فى كتابه شعر الفصحى، ولكن عبد الرحمن كان عاشقاً لشعر العامية وأخفى عن والده وعن ناظر المدرسة عزمه على إلقاء قصيدة بالعامية وعندما بدأ الحفل ألقينا قصائدنا أنا وأمل كما تم الاتفاق عليها، ولكن المفاجأة الكبرى كانت فى أن أخرج عبد الرحمن قصيدة كتبها بالعامية عن عيد الأم وألقاها فى هذا الحفل وحققت نجاحاً مدوياً أذهل الحاضرين بمن فيهم والده الشيخ الأبنودى الذى سالت دموعه فرحاً بروعة قصيدة ابنه عبد الرحمن رغم تحذيره له بضرورة اشتراكه بقصيدة مكتوبة بالفصحى، ونفس الشئ حدث لناظر المدرسة الذى أشاد بالأبنودى وشجعه وبدأ فى الاهتمام به اهتماماً خاصاً بين زملائه الطلبة فى المدرسة، ومنح كلا منا شهادة تقدير أشاد فيها بلغة الفصحى التى يكتبها أمل دنقل، بالاضافة إلى اعجابه أيضاً بما كتبته فى هذه المناسبة وكان دائم التشجيع لنا جميعا .
ومرت الأيام إلى أن جئنا معاً أيضاً إلى القاهرة فى سنة واحدة التحقت أنا بحقوق عين شمس وصفاء عامر بحقوق القاهرة والأبنودى بآداب القاهرة وعبد الرحيم صالح بحقوق الإسكندرية وكنا دائمى الاتصال بعضنا البعض رغم بعد مناطق سكننا فى القاهرة لكننا كنا حريصين على أن نلتقى مرة على الأقل كل شهر، وشاءت الظروف أن يخطو الأبنودى خطوات واثقة فى كتابة الأغنيات الشعبية والوطنية التى لفتت نظر عشاق فنه ويتجه صفاء عامر – بعد تدرجه فى السلك القضائى إلى أن أصبح رئيساً لمحكمة الاستئناف - إلى كتابة المسلسلات الدرامية التى لمع فيها أيضاً لتخصصه فى عرض قضايا الصعيد التى تفوق فيها مثل ذئاب الجبل ومسألة مبدأ وحلم الجنوبى وغيرها، ليجمع بينهما أكثر من عمل فى هذا الاتجاه رغم طول السنين ويلتقيا معا ليكتب الأبنودى أغنيات بعض الأعمال الدرامية لصفاء عامر، وتدور الأيام ويسألنى عبد الرحمن عن زميلنا الذى لم نلتق به منذ أن جئنا إلى القاهرة وهو عبد الرحيم صالح زميلنا فى طابور الصباح بمدارس قنا، وكان شديد الاشتياق إليه فقلت له أعلم أنه دخل السلك القضائى وتدرج فيه وسوف أسأل أحد أقاربه وهو المخرج يوسف حجازى ابن قنا أيضاً الذى تخصص فى البرنامج الإذاعى الناجح كلمتين وبس للكاتب الكبير أحمد بهجت تقديم النجم الكبير فؤاد المهندس، وبالفعل قال لى حجازى انه وصل إلى منصب نائب رئيس محكمة النقض وأعير إلى الكويت لمدة خمس سنوات وعاد منذ شهر وأبلغت الأبنودى بذلك وكانت فرحته لا تقدر وطلب منى أن نفاجئه بزيارتنا دون أن يعلم أننى فى صحبتك، وذات يوم كان عبد الرحمن على موعد مع الكاتب الكبير محمد زايد مدير تحرير الأهرام الذى كان يستكتب الأبنودى فى ملحق الجمعة حلقات أسبوعية بعنوان «أيامنا الحلوة» والتى حولها الأبنودى إلى كتاب بعد ذلك واتصلت بالمستشار عبد الرحيم وقلت له: «أنا جاى لك شوية» دون أن أبلغه أن معى الأبنودى، فرد: «ياريت، أنا فى انتظارك ما تتأخرش»، ونزلنا من مكتب الأستاذ زايد متوجهين إلى دار القضاء العالى سيراً على الأقدام (وهى مسافة بسيطة)، وطلبت من الساعى ابلاغ المستشار بوجودى (وكان مكتبه فى آخر ممر مكتب النائب العام)، فخرج مندفعاً لمقابلتى ليفاجأ بوجود الأبنودى معى، دون أن يصدق عينيه صائحاً: « انت الأبنودى ؟! » ، فيرد عليه الأبنودى: «انت عبد الرحيم؟! »، ليحتضنا بعضهما البعض طويلاً ويكاد الدمع ينهمر من أعينهما معاً ليرى كل منهما الآخر بعد أكثر من ثلاثين عاماً، وقد تغيرت ملامحهما وظهرت تجاعيد الزمن وكفاح السنين على وجه كل منهما، وأمضينا وقتاً طويلاً ليطلب المستشار من الأبنودى التواصل لتعويض ما فاتنا من لقاءات، ولم أنقطع عن الاتصال بالأبنودى للاطمئنان عليه خاصة بعد أن اشتد عليه المرض وكنت أول المستقبلين له عندما أقام له الأهرام احتفالاً بمناسبة عيد ميلاده ومعه زوجته السيدة الفاضله نهال كمال وابنتاه العزيزتان آية ونور، - وقد كان رحمه الله – نموذجاً للشاعر المحب لوطنه الذى يذوب عشقاً فى ترابه وكان الأسبق فى ترجمة الأحداث التى يمر بها الوطن شعراً فى قصيدة أو أغنية، ولم ننس رائعته «موال النهار» التى تغنى بها عبد الحليم حافظ بعد نكسة 1967، لتأتى بعدها رائعته «صباح الخير يا سينا» التى قال فيها: «مين اللى قال كنتى بعيدة عنى وانتى اللى ساكنة فى سواد الننى»، أروع وأصدق ما لحنه كمال الطويل وغناه عبد الحليم حافظ بعد انتصار أكتوبر وعودة سيناء، ولا أنسيا قنامسقط رأسنا جميعاً وجمعت بين هذه الصحبة الجميلة وزرعت فينا بذور الانتماء للوطن وفجرت المواهب فى أبنائها وعلمتهم أن الاعتزاز بالنفس والتمسك بالكرامة رأس مال الإنسان الذى لا تساويه كل كنوز الدنيا، رحم الله الأبنودى بقدر ما قدمه من أعمال وطنية أو عاطفية رائعة أسعدت الملايين وستتغنى بها طويلاً الأجيال القادمة.