وهذا الزمان محدود عندى ببداية هذا القرن. والسؤل اذن: ما هو مسار مصر فى هذا الزمان؟ أظن أن جواب هذا السؤال ليس ممكناً من غير ربط هذا المسار فى هذا الزمان بزمان غير هذا الزمان وهو القرن العشرون. وعندئذ يكون لدينا مساران. وهنا ثمة سؤالان: هل المساران متصلان أم منفصلان؟ وهل المساران فى اتصالهما أو انفصالهما معزولان عن مجال أوسع منهما؟ أبدأ بالجواب عن السؤال الثانى تمهيداً للجواب عن السؤال الأول.إلا أن الجواب عن السؤال الثانى يستلزم تحديد المجال المقصود الوارد فى صياغته. وأظن أن أقرب المجالات إلى مصر هو المجال الأوروبي. وأظن أن طه حسين هو المفكر البارز فى رؤية هذا المجال بفضل كتابه المعنون «مستقبل الثقافة فى مصر» (1938). وفى الصفحة الأولى من هذا الكتاب يثير طه حسين فكرة تكاد تكون هى الفكرة المحورية ومفادها أنه لا حرية من غير حضارة ولا حضارة من غير ثقافة وعلم. ومعنى ذلك أنه إذا أرادت مصر أن تصاب بالحضارة، أى أن تكون متحضرة فعليها بالثقافة والعلم. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: ما هى هذه الثقافة وما هو هذا العلم وما هى سمة الحضارة التى تضمهما معاً وتريدها مصر فى نهاية المطاف؟ أظن أن التاريخ يشهد على أن مصر كانت على علاقة متبادلة بينها وبين اليونان. فقد قيل عن فلاسفة اليونان أن نفراً منهم قد جاء إلى مصر ليتعلم ومنهم طاليس وفيثاغورس وأفلاطون، ومع ذلك فهؤلاء الفلاسفة قد تجاوزوا حضارة مصر، وبالذات فيثاغورس عندما اكتشف أن البرهان العقلى لازم للتدليل على صحة فكرة أو مسارها، واستعان أرسطو بهذا البرهان فى تأسيس علم المنطق، ثم استعان أُقليدس بالبرهان وبعلم المنطق فى تأسيس الهندسة. ومن بعد ذلك دخلت أوروبا فى الحضارة وخرجت مصر منها لأنها لم تستطع أن تتحرر من الفكر الأسطورى الذى تمركز فى أسطورة عودة الروح، وألزم العلماء بتبرير هذه الأسطورة فابتكروا الطب لتحنيط جسم الانسان حتى يكون صالحاً لاستقبال الروح عند عودتها، وابتكروا الهندسة لبناء الأهرامات لتكون مقابر جديرة بدفن الفراعنة الملوك. والجدير بالتنويه هنا أن لفظ «هرم» و «مقبرة» واحد فى اللغة الهيروغليفية. وترتب على ذلك أن توقف العلم عن التطور لأنه حقق الغاية من ابتكاره وهى أنه كان خادماً لأسطورة محددة. وهكذا خرجت مصر من الحضارة وتوالت عليها الغارات الاستعمارية لقرون عديدة. وفى الحادى عشر من هذا الشهر قرأت خبراًفى جريدة الأهرام عنوانه : «الاتحاد الأوروبي: الشراكة مع مصر أكثر أهمية الآن». ثم جاء تفصيله على النحو الآتي: «أكد جيمس موران سفير الاتحاد الأوروبى بالقاهرة فى بيان صدر أمس أنه فى ضوء علاقتنا التاريخية والتحديات المشتركة التى نواجهها والفرص المتاحة للمستقبل تعد الشراكة بين الاتحاد الأوروبى ومصر الآن أكثر أهمية من أى وقت مضى على مدى السنوات العشر الأخيرة».واللافت فى هذا البيان أنه يشير إلى أن الشراكة بين أوروبا ومصر لازمة ومطلوبة «الآن». والآن هنا محددة بأنهاتتويج لعشر سنوات مضت. والسؤال اذن: ماذا حدث فى السنوات العشر الماضية، أو بالأدق ماذا حدث فى عام 2005؟ فى 7/ 7 من ذلك العام هاجم انتحاريون اسلاميون ثلاث محطات مترو مكتظة بالبشر بالإضافة إلى سيارة نقل ركاب بلندن. والمفارقة هنا أن هؤلاء الانتحاريين ولدوا وترعرعوا فى انجلترا وتعلموا بالمجان وأقاموا فى مساكن الدولة. والمفارقة هنا أيضا أن اثنين من الانتحاريين قد طارا من بريطانيا على متن الخطوط الجوية التركية إلى كراتشيبباكستان فى 19 نوفمبر 2004 وأقاموا بها لعدة أشهر قبل العودة إلى لندن فى 8 فبراير 2005. والمغزى هنا أن الارهاب الأصولى لا علاقة له بالوطن، إذ إن علاقته بكوكب الأرض من أجل تأسيس الخلافة الاسلامية عليه. وإذا أدخلنا هذا المغزى فى الشراكة المطلوبة بين الألمان والعرب فيمكن أن نمتد بها إلى الوراء حتى نصل إلى سبتمبر عام 1974 حيث استضافت دار هورست اردمان للنشر «الحوار الثقافى العربى الألماني» بمدينة توبنجن الألمانية بالاشتراك مع جامعة توبنجن وجامعة الدول العربية ممثلة فى أمينها العام محمود رياض وثمانى عشرة دولة من دولها. والسؤال اذن: لماذا بادرت ألمانيا دون غيرها من الدول الأوروبية إلى إجراء الحوار الثقافى العربى الألماني؟ أظن أن السبب كامن فى أن أول هجرات الاخوان المسلمين كانت إلى ألمانيا بقيادة سعيد رمضان زوج نجلة حسن البنا فى النصف الثانى من الخمسينيات من القرن الماضي. وهناك أنشأ «المركز الإسلامي»، وبعد ذلك تغلغل الاخوان فى ألمانيا. وفى 14 مارس 1975 عينت رئيساً لوحدة الدراسات الانسانية بمركز الشرق الأوسط بجامعة عين شمس حيث أعمل بها أستاذاً للفلسفة. وفى نفس ذلك العام دعانى ممثل مؤسسة كونرادأديناور إلى مشاركته فى تأسيس «المجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية». وفى المؤتمرات التى أشرفت على تنظيمها واختيار قضاياها كان من بينها التسامح الثقافي، والهوية الثقافية، والدين والشباب والعنف، ونماذج من العلمانية والتنوير، وهى قضايا مثارة الآن كوكبياً فى القرن الواحد والعشرين. ولا أدل على ذلك من أنه كان ثمة تخوف من عقد مؤتمر «التسامح الثقافي» فى نوفمبر عام 1981، أى بعد اغتيال الرئيس السادات بشهر لأن موضوعه يستلزم مناقشة قضية التعصب وهى قضية لم يكن مرغوبا فى إثارتها لأن ثمة احتمالاً كبيراً فى أن يستولى المتعصبون على السلطة فى مصر، وقد كان إذ استولى الاخوان المسلمون على الحكم فى عام 2012. وماذا بعد؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة