قدر الإسكندرية الجميلة ...أن تعرف كل قصص العشق والغرام التى تتأرجح بين أيام تشبه هدير الأمواج وأيام فى زرقة صفحة البحر الهادئ. فهى بلد البوصيرى والمرسى أبو العباس والامام الشاطبى، وسيف وانلى ومحمود سعيد وبيرم وسيد درويش، وكل من شعر بأنفاس الصباح المنعشة ونسمات الحرية التى تأتى كرسائل للبحر. وهى بلد نظامى الكنجوى شاعر الصوفية والفضيلة... فما الفرق بين الاسكندرية و كنجة مدينته الجميلة التى تنتمى إلى آسيا الوسطى وتحديدا لأذربيجان؟ فمدينته مثل الاسكندرية لاتزال تحتفظ بعفوية المشاعر، يختلط فيها النقاء بتاريخ عريق تحمله فوق ظهرها. وصاحب هذه القصة السكندرية الأذرية الذى تحتفى به مكتبة الاسكندرية ومركز نظامى الكنجوى العالمى بباكو عاصمة أذربيجان هو الحكيم جمال الدين أبو محمد إلياس بن يوسف النظامى الشاعروالفيلسوف الذى عاش فى الفترة ما بين عامى 1141إلى 1209م كواحد من أكبر شعراء الفارسية لغة الشعر والأدب فى آسيا الوسطى فى ذلك الزمن، و كانت مدينته كنجة هى ملهمته فى كتابة خمس منظومات أطلق عليها بالفارسية «بنج كنج» أو الكنوز الخمسة وهى: مخزن الأسرار، وخسرو وشيرين، وليلى والمجنون، و هفت بيكر ، واسكندرنامة. ليلى والمجنون فنظامى كما يقول د. إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الاسكندرية لم يكن شاعر بلاط، لينسب لحاكم ،بل كان شاعرا لكل البشر. وقد استفاد من علوم الفلسفة والموسيقى والفنون وحتى الرياضيات والفلك، و لم يكن مجرد ناقل عن تراث بلاده القديم أو ممثل لحضارة عصره، بل كان مفتوح القلب والعينين على كل الثقافات فأخذ عن الأرمينية والبهلوية (الفارسية القديمة) واليونانية . وأما حياته فلم تكن لتوصف بالسهلة الممتعة خاصة بعد فقد زوجته الأولى التى تعلق بها. فمأساة فقد الأحبة والزوجة قد تكررت فى حياته، فمنحته ألما عبقريا جعلته يقف على أرض صلبة من الابداع الذى تحول إلى كلمات تنفذ إلى القلب . وتبدأ كنوزه الخمسة ب «مخزن الأسرار» التى صور فيها الحياة المثالية التى تبتعد عن النفاق والغرور والأنانية, وهى نظرة فلسفية صوفية لما يجب أن يكون عليه البشر، أما «خسرو وشيرين» فهى متأثرة بالتقاليد الفارسية و تصور قصة حب الحاكم خسرو لشيرين التى يحبها أيضا فرهاد، ولهذا فالنهاية المأساوية تنتظر المحب. رفع الستار عن تمثال نظامى
وكانت «ليلى والمجنون» تجربة أكثر ثراء، فبراعته فى تحويل مناخ الصحراء والرمال إلى قصة عشق. أما «هفت بيكر» ذات البناء المعقد فتحكى عن حب الملك بهرام كور لفتنة، و تحد يها له فى إحدي رحلات الصيد ونجاحها الذى أثار الملك، فتقرر فتنة الاختباء فى الغابة فى منزل له ستين درجة سلم كانت تصعدها كل يوم وهى تحمل عجلا حديث الولادة. وبعدها بسنوات يزور الملك المكان ويتعجب من هذه المرأة. كيف فعلت هذا؟! فكان جوابها أن الكفاح يجعلنا نستطيع، فيتعرف عليها الملك و يبدى ندمه على اندفاعه. فالمرأة لدى نظامى قوية لها طموحها، وتستطيع أن تحدد مصيرها. وأما منظومته «اسكندر نامة» فهى تحكى عن الاسكندر كغاز، وباحث عن العلم، وصاحب دعوة، ويستلهم فيها نظامى كثيرا من تجارب البشر، وتبدو المرأة أيضا فى دور المعلم الذكى .وهذا ليس غريبا على أذربيجان التى كانت أول دولة مسلمة تعطى المرأة حق التصويت عام 1918، متفوقة بذلك على الولاياتالمتحدة وفرنسا. وتصف جوهر بكهاش علييف عضو البرلمان الاذرى الإحتفال بنظامى بأنه فرصة جيدة لتقديم أدب وحضارة أذربيجان على الأرض المصرية المقدسة. فقد تأثر نظامى بالتراث العربى، وكتب شعرا استوعب قلمه فيه كل الحضارات فبدا منتميا للفكر الإنسانى، فعندما كتب «ليلى والمجنون» قرأ قبلها كل ما جاء عن هذه القصة فى التراث العربى وقصص حب جميل بثينة وكثير عزة وغيرهما، وأشار مباشرة إلى كتاب « الأغانى» لأبى الفرج الأصفهانى. ويعد الباحثون المصريون من أفضل من قدمه وكتب عنه, ومنهم الراحل د. عبد النعيم حسنين أستاذ اللغة الفارسية الذى قدم كتابه «نظامى الكنجوى شاعر الفضيلة»، الذى اعادت مكتبة الاسكندرية طبعه أخيرا. مائدة مستديرة: مازلنا مع نظامى الكنجوى الذى كان مثار حديث عدد من أمناء مكتبة الاسكندرية على مائدة مستديرة. فأفكار نظامى كانت ملهمة لميدانى رئيس ألبانيا، وإيميل قنسطنطينسكو رئيس رومانيا، وباسترانا أرنجو رئيس كولومبيا، وبوريس تاديك رئيس صربيا، وويم كوك رئيس وزراء هولندا السابقين ود. أكمل الدين إحسان أوغلو أمين عام التعاون الاسلامى السابق، و شاهين عبد اللايف سفير جمهورية أذربيجان عند حديثهم عن قيم التسامح ومواجهة التطرف وتبادل تجارب الشعوب ، وإرساء ثقافة السلم فى ظل الحوار الهادئ والرؤى المعتدلة. فوجود شعراء ومفكرين فى قامة نظامى - كما قال د. أكمل الدين إحسان- يمثل حكمة الحضارة الاسلامية. فالانسان مبدأ وكلمة، وقد ترك نظامى أفكارا أثرت فى أجيال من بعده منهم، مولانا جلال الدين الرومى فى «المثنوى»، و الحضارة الاسلامية بشكل عام وضعت أفكارها عبر ثلاث لغات هى العربية والتركية والفارسية. وهى اللغات التى عرفها الشاعر الذى أتقن لغة القرآن، وكتب بلغة الأدب الفارسية وتحدث بالتركية. فمثل هذه الأفكار من التسامح والتعايش كما قال د. إسماعيل سراج الدين تذكرنا بقول للكاتب فيكتور هوجو من انه لا يوجد جيش فى العالم يستطيع أن يحارب فكرة حان وقتها. رؤية مصرية: نظامى هو شاعر الفضيلة، كما ترى د. شيرين عبد النعيم رئيس قسم اللغات الشرقية بجامعة عين شمس، فكثير من كتب التاريخ ترى أن ذا القرنين الذي ورد ذكره في القرآن الكريم هو الاسكندر المقدوني استنادا إلى بلوغه مشرق الأرض ومغربها، الا اننا إذا تناولنا فتوحات الاسكندر، يتبين لنا أنه من الثابت تاريخيا أنه لم يكن عادلا مع الشعوب التي قاومته. كما أن فتوحاته ليست هى مشارق الأرض ومغاربها، ولم يذكر تاريخيا أنه بنى سدا أثناء غزواته . ومع هذا تعد منظومته «اسكندرنامة» أعظم وأضخم عمل أدبي مستقل في الأدب الفارسى صدر في مجلدين. أولهما «شرفنامة» كتاب الشرف الذى يتحدث عن الاسكندر كملك فاتح ونظمه في 6800 بيت شعرى.أما ثانيهما «اقبالنامة» كتاب الحظ والسعادة، فقد قسمه الشاعر إلى قسمين، الأول تحدث فيه عن الاسكندر كحكيم، والآخر يتحدث فيه عن الإسكندر كمصلح ونظمه في 3680 بيتا. فقد كان نظامي حريصا منذ البداية على تصويره كملك فاتح عادل، ولهذا يعلل سبب ذهاب الإسكندر لمصر لشكوى المصريين أنفسهم من ظلم الزنوج المغيرين من الجنوب ، لهذا أحسن معاملتهم وبنى أول مدينة على ساحل البحر. وفي الجزء الثاني «اقبالنامة» يعود الإسكندر إلى بلاده، ويختار سبعة حكماء وهم: «أرسطو» وزير مملكته، و«بليناس» الشاب، و«سقراط» الشيخ، وأفلاطون، وواليس، وفرفوريوس، و أخيرا هرمس المشهور برجاحة عقله ليعقد اجتماعا يناقش فيه أصل العالم. وتختتم المنظومة بوصول الاسكندر إلى مدينة تشبه الجنة ليست لها أبواب، يسكنها قوم تسود الأمانة بينهم، فيسألهم عن دينهم فيقولوا: نحن جماعة من الضعفاء نعتنق دين الله. ولا نحيد شعرة من رأسنا عن الحق. ويرى د. عبد العزيز بقوش أستاذ الأدب الفارسى ومترجم أعمال نظامى أن إرساء القيم هو الأساس فى الخمسة الشهيرة التى أبدعها نظامى فى زمن يقارب الخمس والأربعين عاما، لتجمع فى مجلد واحد بعد موته، بالاضافة إلى ديوان شعر تبقى منه ألفا بيت تقريبا. ويضم «مخرن الاسرار» أول الخمسة-عشرين مقالة تشمل قصصا ونصائح ومواعظ، وإذا انتقلنا إلى «ليلى والمجنون» نجد اختلافا بينها وبين الأصل العربى، حيث يبدو عشق قيس لليلى عشقا صوفيا، فهو عشق للعشق. وفى الجزء الثانى من «اسكندرنامة» نجد الاسكندر يطوف المعمورة لنشر دعوة السلام والحب. وفى « هفت بيكر» يربط نظامى بين حروب بهرام كور وبين حياته العائلية، ويظهر تفوق عاطفة نظامى الدينية فى «خسرو وشيرين» على عاطفته القومية. فهو ليس كالفردوسى الذى يحظى بحب الإيرانيين لتمجيده تاريخهم، فنظامى المتدين يرى الشعر وسيلة لنشر الفضيلة فى المجتمع. فالعشق كما تقول د. رملة غانم يكون من خلال موقف اخلاقى لا يخالف السلوك الحميد. وتعتقد د. الشيماء الدمرداش الباحثة بمكتبة الاسكندرية أنه فى ظل العنف و التطرف الذى يسود العالم الإسلامى تظل حاجتنا لأفكار نظامى حول السلام ، وحقوق المرأة، وكرامة الانسان. فالمعروف أن والدة نظامى كردية سنية، وأن أباه نازح من قم الايرانية، ومع ذلك لم يتحدث عن المذاهب، بل عن القيم الانسانية، فبحث عن الحق والعدل والفضيلة.فالطريق إلى الإنسانية يكون دائما عبر الحكمة والزهد. وهكذا يبقى تعليق أخير على احتفالية نظامى ... لماذا نهمل شعراء بحجم نظامى وننسى أن حضارتنا فى الأساس شرقية، وأن منطقة آسيا الوسطى يمكن أن تمثل مستقبلا لمصر..والسؤال وبشكل أخر متى نتحرك فى اتجاه بلاد تعرفنا جيدا، ولكننا ورغم ارتباطنا الحضارى بها لا نعرف عنها شيئا؟ مجرد سؤال؟!