في حياة الشعوب والمجتمعات والدول لحظات فارقة, نادرا ما تتكرر, ولقد حبا الله مصر في لحظة من هذه اللحظات بشخص البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث. فكان شخصية ساطعة وظاهرة فريدة ليس في مصر وحدها, بل في العالم العربي بحكم رئاسته للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. ولعل مواقفه الوطنية علي الصعيدين الداخلي والخارجي من العديد من القضايا, وعلي رأسها القضية الفلسطينية, جعلت مفتي لبنان يطلق عليه لقب بابا العرب, هذا اللقب الذي هللت له وسائل الإعلام وأخذت تكرره مرارا وتكرارا, لاسيما بعدما حصل علي جائزة التسامح وعدم العنف, والتي منحته إياها منظمة اليونسكو في نوفمبر من عام 2000, أيضا جائزة حقوق الإنسان التي منحته إياها دولة ليبيا في شهر سبتمبر.2003 ولقد استطاع البابا شنودة الثالث طيلة أربعين عاما أن يجمع بداخله شخصية بسيطة محبة ومتواضعة, فكان من أكثر القيادات الدينية المسيحية في تاريخ مصر الحديث التي اتخذت مواقف وطنية مهمة وحاسمة, كان لها الأثر الفعال علي جميع المستويات داخليا وخارجيا. ولعلنا نذكر أنه بعد رسامته بطريركا بأقل من عامين, قامت حرب أكتوبر 1973, وحققت فيها قواتنا المسلحة نصرا عظيما أعاد لمصر كامل سيادتها علي أرضها, وبعد قرار وقف إطلاق النار بأيام قليلة تفقد البابا مع عدد من قيادات القوات المسلحة, القوات المصرية الرابضة علي قناة السويس وفي سيناء, التي كان قد خدم كضابط بين صفوفها بعد تخرجه في كلية الآداب, أيضا موقفه الشجاع في مسألة التطبيع مع إسرائيل, ورفضه القاطع لزيارة الأقباط الي القدس بتأشيرة إسرائيلية, مؤكدا أن الأقباط لن يدخلوا القدس إلا مع اخوانهم المسلمين بتأشيرة فلسطينية, هذا الموقف الذي كان ثمنه الصدام مع رئيس الجمهورية وقتئذ شخصيا. لم يقف دعمه للقضية الفلسطينية علي رفض زيارة القدس أيضا, بل كانت مساندته وتعضيده للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات, حيث أقام احتفالية كبري بمقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية, بمشاركة قيادات الأزهر الشريف, تضامنا مع الرئيس عرفات الذي كان محاصرا في ذلك الوقت في مقر اقامته بقطاع غزة, مما حذي بالرئيس عرفات ألا يكون موجودا بالقاهرة, إلا ويقوم بزيارة البابا في مقره واطلاعه علي جميع التطورات داخل الأراضي المحتلة, وطالبا للمشورة. البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث هو صاحب فكرة اقامة مائدة الوحدة الوطنية في الكاتدرائية بالعباسية التي يجتمع من حولها سنويا المسلمون والأقباط معا, مع كبار رجال الدولة لتأكيد الوحدة التي تجمع بين الأشقاء داخل الوطن الواحد. أيضا كان له دور وطني رائد حينما تصدي لفكرة التدخل الخارجي في شئون مصر بهدف حماية الأقباط, مؤكدا أن الأقباط في مصر لن يحميهم سوي اخوانهم المسلمين الذين يرفضون أي محاولة تقوم بها قلة خارجة لاستغلال مناخ الحرية في مصر, للنيل من وحدة أبنائها. وأخيرا: كانت رحلاته الدائمة الي بلاد المهجر بهدف ربط أبناء الوطن الموجودين في شتي أنحاء العالم, بالوطن الأم, والتأكيد لجميع الكنائس في هذه الدول علي أهمية الحفاظ علي الهوية المصرية لأبناء المهاجرين, وتشجيعهم علي زيارة وطنهم والتعرف علي حضارة وتاريخ أجدادهم. هذا جزء قليل من كثير, من التاريخ الوطني لشخص كان خير معبر عن الشخصية المصرية التي حمل سماتها, سواء وهو طالب بالجامعة, أو ضابط بالقوات المسلحة, أو راهب في الصحراء, أو شاعر, أو صحفي, أو احد أكبر القادة الدينيين في العالم. لقد فقدت مصر برحيل قداسة البابا شنودة قامة كبيرة, أحب مصر فأحبته, بكته مصر بمسلميها قبل مسيحييها, ونعاه العالم نموذجا فريدا في الإنسانية. المزيد من مقالات نبيل نجيب سلامة