يستمد الدستور الجديد أهميته الخاصة من نوع نظام الحكم الذي سينص عليه. فهذا النظام هو الذي سيحدد صورة مصر في الفترة المقبلة أكثر من أي أمر آخر. دون أن يعني ذلك تقليل أهمية التحولات التي تحدث علي الساحة السياسية والخريطة الحزبية وبصفة خاصة صعود الحركات الإسلامية. فقد ظلت مصر علي مدي نحو ستة عقود أسيرة نظام حكم فردي أرساه دستور 1956, وأعاد دستور 1971 إنتاجه مع تعديلات طفيفة. وبالرغم من الميل السائد إلي وصف رئيس الجمهورية في ظل هذا النظام بأنه فرعون خارج عصره وزمنه, فقد كان في الحقيقة نظاما فرعونيا ومملوكيا في آن معا. وقياسا علي التاريخ, كان رئيس الجمهورية مزيجا من الفرعون مطلق اليد الذي لا تحد سلطته حدود, والسلطان الذي لم تكن يده طليقة في معظم فترات العصر المملوكي لأن استشراء نفوذ الأمراء وضع لسلطته حدودا. فلم يكن الرئيس المصري منذ إعلان الجمهورية فرعونا أو حاكما فردا بخلاف الانطباع السائد حتي في أوساط عالمية حتي الآن كما يظهر من عنوان مقالة نشرتها صحيفة لوفيجارو الفرنسية أخيرا, وهو (مصر تبحث عن فرعونها الجديد). ففي عصرنا هذا, لا يستطيع حاكم مهما بلغت شهوته السلطوية وقدرته علي السيطرة أن يحكم منفردا إلا في بلاد صغيرة تسهل إدارتها. أما في البلاد المتوسطة والكبيرة الحجم, فليس في امكان أي حاكم فرد أن ينفرد بالسلطة بشكل كامل, لا لشيء إلا لأن ممارسة هذه السلطة واحتكار القرار باتت تفوق طاقة البشر في عصرنا هذا بتعقيداته لم تكن قائمة في عصور سابقة شاع فيها الحكم الفردي المطلق. ولا يستطيع أي شخص ممارسة السلطة التنفيذية في كل جوانبها ومستوياتها, فضلا عن إدارة عملية الهيمنة علي السلطة التشريعية بتفاصيلها الكثيرة, طول الوقت. فإذا توافرت له معرفة موسوعية لم يسبقه إلي مثلها أحد, لا يتيسر له الجهد اللازم. وإذا كان لديه هذا وتلك, وتمكن من الإحاطة بشئون البلاد جميعها واستيعاب تفاصيلها كلها ووجد في نفسه الطاقة والقدرة اللازمتين لهذه المهمة, لا يسعفه الوقت لأن سلطته المطلقة لا تتيح له إضافة ساعة أو ساعات إلي الساعات الأربع والعشرين في اليوم. وفي غياب مؤسسات تقوم بدورها في إدارة شئون البلاد, يتعين علي الحاكم الفرد المطلق أن يحكم ويمارس سلطاته من خلال المحيطين به. وعندئذ تختلط سلطة الفرد المطلق الفرعونية بحكم القلة من أصحاب النفوذ والقوة الذين كان أمراء المماليك أبرز مثال لهم في تاريخنا استطرادا في منهج القياس علي هذا التاريخ في حقبه المختلفة. ولذلك كان الرئيس في مصر خلال العقود الماضية مزيجا من الفرعون والسلطان المملوكي بهذا المعني الذي نعود فيه إلي التاريخ بحثا عن وصف مجازي لنظام الحكم. وحتي الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن حاكما فردا مطلقا, وإلا ما لعب عبد الحكيم عامر مثلا الدور الخطير الذي قاد إلي هزيمة 1967 التي لا تزال تركتها ثقيلة علي أكتافنا. ولم يكن عامر إلا واحدا من الذين أدوا أدوارا واكتسبوا نفوذا حول عبد الناصر, وصاروا بالفعل مراكز قوة وفق التعبير الذي استخدمه أنور السادات عندما أطاحهم, معتقدا أنه سينفرد بالسلطة التي لم تلبث أن استحوذ آخرون من رجاله علي مساحات معتبرة منها. ولكن السمات المملوكية في النظام المصري توسعت بوضوح في العقد الأخير من عهد حسني مبارك حيث ازدادت المساحات الفارغة في السلطة وتحرك فيها أصحاب نفوذ من بيروقراطية الدولة ورجال المال والأعمال سعيا من كل منهم إلي الاستحواذ علي ما يتيسر له من هذه السلطة التي ارتبطت بالثروة ارتباطا بدا كما لو أنه زواج مصالح شاع في ظله فساد أسطوري. وهكذا كان نظام الحكم الفرعوني السلطاني الذي جمع بين حكم الفرد المطلق وحكم القلة الفاسدة هو الداء الخبيث الذي دمر مصر شعبا ومجتمعا ونخبة. وهذا هو النظام الذي ينبغي أن يتضمن الدستور الجديد ما يحول دون إعادة إنتاجه في شكل جديد أو صيغة مختلفة. ويتطلب ذلك اعتماد نظام يقوم علي توزيع السلطة التنفيذية, بحيث يصعب تركزها مرة أخري بأي صورة. فلا يكفي أن تكون السلطتان التشريعية والقضائية مستقلتين وغير خاضعتين لهيمنة السلطة التنفيذية بالرغم من ضرورة ضمان هذا الاستقلال. غير أنه لا سبيل إلي مثل هذا الاستقلال, وإلي استمراره وعدم تراجعه, إلا من خلال توزيع السلطة التنفيذية نفسها بين رأسين متوازيين وليسا متراتبين. وقد ثبت عبر تطور النظام الجمهوري منذ نشأته أن الصيغة الأفضل لتوزيع السلطة هي الفصل بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء, وليس فقط الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. ويتحقق هذا الفصل عبر اختلاف الطريقة التي يستمد بها كل منهما شرعيته الشعبية, وذلك بأن يكون رئيس الدولة منتخبا من الشعب بشكل مباشر, بينما يكون رئيس الحكومة مرشحا من الأغلبية البرلمانية المنتخبة بدورها. وعندئذ لا يجوز لرئيس الدولة إقالة رئيس الحكومة, لأنه لا يعينه ولا يكلفه بشكل مباشر بالرغم من أنه يصدر قرار تكليفه. فما هذا القرار إلا تعبير عن الواقع الذي لا يستطيع رئيس الدولة أن يغيره بإرادة منفردة. وفي هذه الصيغة يكون لرئيس الدولة صلاحيات أكبر في الشئون الخارجية والدفاع والأمن القومي, ولرئيس الحكومة دور أوسع في الشئون الداخلية. وتفرض هذه الصيغة علي رأسي السلطة التنفيذية أن يتعاونا حتي فيما يختلفان بشأنه, الأمر الذي يفيد في إرساء تقاليد الحوار والتفاعل والتشاور والمرونة والاحترام المتبادل. وهذه هي التقاليد الطاردة لاحتكار السلطة والضامنة لأن يكون في مصر اعتبارا من أول يوليو المقبل رئيس للجمهورية وليس فرعونا أو سلطانا. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد