توثقت علاقة الفنان بليغ حمدى مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم بعد أن تغنت بأول ألحانه «حب إيه» من تأليف الشاعر عبدالوهاب محمد والذى حقق دوياً كبيراً ونجاحاً هائلاً واستقبله الجمهور بالتصفيق والإعجاب وكان عمر بليغ فى ذلك الوقت لا يتجاوز الثمانية والعشرين عاماً وشعرت تجاهه من واقع خبرتها وتعاملها مع كبار الملحنين أن بليغ صاحب موهبة وملحن واعد سيكون له مستقبل كبير فى عالم التلحين وكثيراً ما كانت تقول لبعض كبار النقاد، عنه أنه ملحن صاحب جملة تستطيع أن تتعرف على موسيقاه وألحانه بسهوله وأن كثيراً من الموسيقيين لا تكون لهم جملة تعرفهم من خلالها وأن بليغ تستطيع أن تتعرف على كل لحن له قبل أن تنطق المذيعة باسمه لتميزه عن غيره وهو نفس الشئ الذى تقوله أم كلثوم بالنسبة لكبار الشعراء الذين تعاملت معهم بأن فلان يمكنك أن تتعرف على كتابته ولغته فى الشعر عن غيره، ولذا فقد استطاعت أم كلثوم أن تحكم على ثلاثة شعراء بأنهم مجيدون تعامل معهم بليغ وغنت لهم أم كلثوم بألحانه وهم: عبدالوهاب محمد ومرسى جميل عزيز ومأمون الشناوى والذين فازوا بعديد من ألحانه التى تغنت بها سيدة الغناء العربى ولكل لحن من هذه الألحان حكاية لا نستطيع أن نعرضها فى هذه المساحة الضيقة ونكتفى بذكرياتنا عن رائعة بليغ حمدى التى لحنها من كلمات مأمون الشناوى «بعيد عنك حياتى عذاب»، فعندما اتصل بليغ بأم كلثوم يفيدها بأنه عنده كلام جميل لمأمون الشناوى الذى كانت أم كلثوم تقدره كشاعر كبير فسألت بليغ: هل دخلت فى تلحين الأغنية فقال لها «خلصت المذهب والكوبليه الأول يا ست» ففرحت أم كلثوم وطلبت منه الحضور فى اليوم التالى وفرح بليغ بهذه الدعوة، وفى الموعد المحدد كان فى فيلا أم كلثوم المطلة على شارع أبو الفدا المطلة على نيل الزمالك، فرحبت به وبعد تناول الشاى قالت: سمعنى يا بليغ، فأمسك العود وبدأ فى غناء المذهب الذى يقول: بعيد عنك حياتى عذاب ماتبعدنيش بعيد عنك .. ماليش غير الدموع أحباب .. معاها بعيش بعيد عنك .. ومهما الشوق يسهرنى .. ومهما البعد حيرنى .. لا نار الشوق تغيرنى .. ولا الأيام بتبعدنى بعيد عنك، ارتاحت أم كلثوم وطلبت منه إعادة الغناء وغنت معه المذهب شعرت بارتياح للكلام واللحن خاصة أداء بليغ له وسكتت برهة وقبل أن تطلب الدخول فى الكوبلية الأول طلبت اعادة المذهب مرة أخرى وحفظته كاملاً ثم انتقل بليغ إلى الكوبلية الذى يقول: لا نوم ولا دمع .. فى عنية .. ماخلاش الفراق فيا .. نسيت النوم وأحلامه .. نسيت الشوق وآلامه، وتأثرت أم كلثوم بلحن بليغ وكلام مأمون الشناوى وابتسمت وقالت لبليغ: مأمون هايل هايل يا بليغ، وسكتت برهة وعادت لتردد نفس مقطع الكوبلية ثم قالت: مبروك يا بليغ كمل اللحن، وغادر بليغ فيلا أم كلثوم وهو فى قمة فرحته بعد أن تأكد له أنها ستستهل بها موسمها الغنائى الجديد، وما أن وصل إلى شقته المطلة على ميدان سفنكس وفتحت له شقيقته صفيه الباب ولاحظت فرحته وقالت له: مبروك يا بليغ، وهو ما كانت تشعر به فى كل مرة يقابل فيها بليغ أم كلثوم.. ليختفى بليغ فى اليوم التالى ويسافر إلى الإسكندرية لاستكمال اللحن ومن هناك اتصل بشقيقته ليقول لها: ماتقوليش لحد أنا فين، وعلمت منه أنه يعكف فى أحد شاليهات الذى استأجره أسفل فندق سان جيوفانى بكورنيش الأسكندرية، وظل معتكفاً على مدى 15يوما إلى أن انتهى من اللحن كاملاً وعاد لأم كلثوم مرة أخرى التى تابعت معه حفظ الأغنية وظل يتردد عليها عدة مرات ثم يعود إلى نفس الشاليه ليضع اللمسات الأخيرة للحن وينفذ ملاحظات سيدة الغناء التى طلبتها منه خصوصاً فى الكوبليه الأخير الذى أعجبها إعجاباً شديداً وغنته معه أكثر من مرة ويقول فيه مأمون الشناوى: افتكرنى فى لحظة حلوة .. عشنا فيها فى الهوا .. افتكر لى أى غنوة .. يوم سمعناها سوا .. خذ من عمرى عمرى كله .. إلا ثوانى أشوفك فيها، وتتأثر أم كلثوم بالمقطع الذى يقول: كنت باشتاق لك أنا وأنت هنا .. بينى وبينك خطوتين .. شوف بقينا فين يا حبيبى .. وانت فين .. والعمل .. غيه العمل .. ما تقولى أعمل ايه .. والأمل انت الأمل .. تحرمنى منه ليه، وتردد أم كلثوم هذا المقطع أكثر من مرة وتطلب من بليغ الاتصال بعازف القانون الأول رئيس فرقتها الموسيقية محمد عبده صالح لكتابة النوتة الموسيقية الكاملة للحن، ويعود بليغ إلى صومعته مرة أخرى فى سان جيوفانى ويأخذ معه الأوراق الخاصة بكتابة النوته بنفسه ليكتبها فى هدوء ويطبع منها النسخ بعدد العازفين (30 عازفا )، واستغرقت هذه العملية منه أسبوعاً كاملاً، وكنت على اتصال دائم به بالفندق لأعرف تفاصيل حكايته مع احدى روائع شاعر كبير اعتز به وتغنت بأعماله كبار نجوم الغناء فى مصر والوطن العربى (مأمون الشناوى)، الذى كان أيضاً يعرف اعتكاف بليغ فى الاسكندرية وللعلاقة الوثيقة، التى كانت تربطنى به كان يخبرنى بكل خطوات بليغ، وأذكر أننى فى آخر مرة اتصلت به هناك رد على موظف الفندق الذى كان ينزل لاستدعائه من الشاليه طلبت منه النزول «لينده على بليغ ويقول له فى تليفون عشانك» وقال لى: «بليغ موجود بيتغدى طاجن السمك بالأرز الأحمر وسلاطة بابا غنوج» وهى أكلته المفضلة فى هذا الفندق، وبعد أن دار بينى وبين بليغ الحديث أفادنى بأنه سيعود غداً للقاهرة والاتصال بفرقة أم كلثوم لبدء بروفات الأغنية، وهو ما تم بالفعل حيث اكتلمت الفرقة واتصلت بمهندس الصوت وطلبت منه حضور البروفات التى كانت تبدأ كل يوم من الثانية ظهرا وحتى العاشرة مساء، وانتظرت يومين حتى تكون قد قطعت شوطاً كاملاً وتكون أم كلثوم قد بدأت فى الغناء بعدهما جلست كابينة الاستوديو لأتابع شدو أم كلثوم للأغنية والتى كانت تدخل الاستوديو مباشرة وتجلس أمام الفرقة وإلى جوارها بليغ حمدى وتبدأ فى الغناء ويصل أداءها إلى قمة روعته وينشرح صدر الفرقة الموسيقية ويبتهج أعضاؤها ويشعرون جميعاً بأنهم أمام موهبة عظيمة قلما يجود الزمن بمثلها وهى تشدو بالأغنية كاملة لأجد فى نهاية الأغنية عازف الكمان الأول أحمد الحفناوى صاحب الابتسامة العريضة وهو يحيي سيدة الغناء ويحتضن بليغ حمدى ليدخل فى آخر البروفة الشاعر الكبير مأمون الشناوى ليبارك لأم كلثوم ويعيش الجميع لحظة من أجمل لحظات العمر. ويتحدد موعد افتتاح الموسم الغنائى لأم كلثوم لتشدو بالأغنية على مسرح قصر النيل وفى البداية يقرأ المذيع نص الأغنية كاملاً وينفتح الستار لتظهر أم كلثوم وهى فى قمة أناقتها ممسكة بمنديلها الأبيض وقد استقبلها الجمهور بتصفيق مدوى، وتعزف الفرقة المقدمة الموسيقية الرائعة وتستمر فى الغناء لتعيد كل كوبليه أكثر من مرة وقبل أن ينتهى الحفل بعد الثانية صباحاً يدخل الشاعر مأمون الشناوى من باب المسرح بعد أن كان يتابع الأغنية من أولها فى منزله وبين أولاده لينضم فى النهاية إلى بليغ والفرقة الموسيقية لتهنئه سيدة الغناء بنجاح رائعتها الجديدة.