جاء الايطالي تيتسيانو سكاربا إلى القاهرة ليلقي بعضا من قصائده في اليوم العالمي للشعر، ملبيا دعوة المعهد الثفافي الإيطالي ونظيره الاسباني ووزارة الثقافة الذين ساهموا في احتفالية تجمع بين الشعر والموسيقى ببيت السناري بالسيدة زينب. كما أجرى حفلات توقيع بمكتبات تنمية والكتبخان بمناسبة صدور ترجمة كتابه «جسد» عن مطبوعات جمعية بعد البحر الثقافية، وهو نص يقع على أطراف القصة والقصيدة يحكي فيه كاتب البندقية علاقته بأعضاء جسده المختلفة برؤية فنية تجمع بين البحث العميق داخل الذات والانفتاح التام على طاقات الخيال والفانتازيا. «يقولون دائما ان الموسيقى لغة عالمية، لكني أدركت اليوم أن الشعر أيضا يمكن تذوقه أيا كانت لغته»، كان هذا تعليق السيدة السبعينية المصرية التي كانت وسط جمهور اليوم العالمي للشعر الذي أقيم في بيت السناري الأسبوع الماضي، ممتدحة الشاعر الايطالي تيتسيانو سكاربا وإلقاءه المميز لقصائده. صحيح أن الترجمة العربية لمختارات الشعر سبقت القاءه باللغة الايطالية، لكن الأداء المميز لتيتسيانو سكاربا وطريقته المسرحية–بالمعنى الايجابي للكلمة- في الإلقاء غيرت تماما مجرى النص، بحيث تتساءل بعد سماع الأمسية كم من شعراء أضروا ربما بقصائدهم لأنهم لم يستطيعوا أن ينقلوا للجمهور الدهشة والدفقة الشعورية والشجن الذي تحمله الكلمات. بالحيوية والطاقة التي عرف بها أهل البحر المتوسط، بدأ تيتسيانو مختارته الشعرية بقصيدة عن لقائه بالقاهرة، وراح يتأرجح بين ايقاعات صوته منفتحا على العالم من حوله واصفا تفاصيله اليومية العادية ومقتحما عمق القصيدة طارحا أسئلة وجودية عن الموت والحياة، كما في قصيدته «فتاة تعيش في ألاسكا»، تلك الفتاة التي تنشد الترحال «دون شيء في جيبها/ بلا مدية ولا نقود ولا خريطة/ ستترك الرحلة تملي محطاتها». يمتليء صوت الشاعر بهجة وانطلاقا تسمع من خلاله مغامرة اكتشاف العالم، ثم ما يلبث أن تنغلق حنجرته تماما لتعلن عن المأساة في نهاية الأبيات بعد أن تضحك الفتاة ملء قلبها «تخطو خطوة، تتعثر، تتدحرج، تلقي حتفها». أما قصيدة القاهرة، التي كانت مفتتحا دالا على عالم تيتسيانو الشعري، فقد عبر بها عن لحظة قراءة الشعر ذاتها، وعكس فيها معضلة القصيدة الأزلية التي تسعى الى أن تعبر بكلمات قليلة عن رائحة المكان وكثافة اللحظة بكل ما تحمله من معان ورؤى، دون التخلي عن ابداع الشاعر الخاص. إذ تقول كلماتها : «لا أعرف ماذا اختار/من بين كل ما كتبت. عليّ الذهاب إلى مصر/تمت دعوتي إلى القاهرة/ يوم الشعر العالمي. العالم دميم/ إنه لسأم أن تكون على قيد الحياة/ ننسى باستمرار/ أن الموت واجب. آمل أن أظهر بمظهر حسن/ بست أو سبع قصائد/ سيعدون الترجمة إلى العربية/ بمصاحبة العود.» وتستمر القصيدة متأرجحة بين عالم التفاصيل اليومية وبين أسئلة الوجود والموت، أو كما يريد تيتسيانو بالقصيدة، إذ يقول إن كتابته للشعر تنطلق «إما من التفاصيل أو الأحداث العارضة التي تبدو بلا قيمة، لكنه يطرح من خلالها أسئلة عميقة، أو قد تولد القصيدة عن طريق قوة الكلمات، أمنح الكلمات ثقتي وأعلم أنها ستساعدني في ايجاد الايقاع والوزن والفكرة والبناء اللغوي الداخلي. تصير الكلمة هي حدسي، تصحبني من يدي مثل صديق قديم. فأنا أؤمن أن كتابة الشعر تعتمد في جزء منها على الايمان الكامل بالشكل». ولا يقتصر عالم الكاتب الايطالي على القصيدة فقط، بل إن تيتسيانو سكاربا الذي ولد في 1963 بمدينة فنيسيا، كتب أيضا المسرح، وعُرف بكتابته الكوميدية، وكتب المجموعة القصصية مثل «حب» (1998)، والرواية مثل «ستابات ماتر» (2008) والتي نالت جائزة ستريجا الايطالية الرفيعة في 2009، كما كتب أيضا قصص الأطفال مثل «صديق مخيف» (2011)، إذ يعتبر هذا التنوع نوعا من «الترحال» لأنه لا يحب المكوث في مكان واحد. أما كتابه «جسد» الذي صدر بالعربية وترجمته عن الايطالية كل من روحية عبد العزيز وهبة فاروق، عن مطبوعات «بعد البحر»، فيقف على الحدود بين الخيال القصصي وشعرية القصيدة. عبر نصوص موجزة لا تتجاوز الصفحتين، يتناول أعضاء الجسد المختلفة، ليكشف علاقته به، ويتوقف عند ما يعتبره المرء مسلمات ليضيف إليه أبعادا خيالية تميزه وحده، يعيد اكتشاف الرأس والوجه والأسنان والسرة والجفون والأنف والفم والعنق والقلب الخ ويضفي بعدا غرائبيا عليها لتصير مثل المغامرات في قصص الأطفال، حيث يصف سرته قائلا : «توجد سرتي في وسط بطني. إنها المقابل لبئر سان باتريتسيو شديدة العمق: فعمقها يبلغ تقريبا سنتيمترا ونصف». ويصف رأسه قائلا : «رأسي مصباح غير شفاف، يبدو منطفئا ولكن إذا أغلقت عينيّ يمكنني أن أتخيل النور. رأسي حوض سمك زجاجي يستبح بداخله العالم وهو يهز زعانفه مختلفة الألوان». وحين يتناول فصل «الأصابع» يكتب تيتسيانو : «أتأمل أطراف أصابعي طويلا قبل أن أكتب. أصابعي صنابير يتدفق منها أحيانا ماء عكر وأحيانا عصير برتقال لاذع وأحيانا أخرى خمر معتق منذ 1963». لا يدعي الكاتب أنه حيال نوع أدبي جديد أو مجرد نص سردي أقرب إلى المقال، لكنه يقارب هذه الشذرات التأملية التي لا تخلو من خيال بنوع نحته الكاتب الاسباني رامون جوميث دي لا سيرنا (1988-1963) في بدايات القرن العشرين ويطلق عليه «لا جريجريا» وهو عبارة عن نصوص نثرية حول الطبيعة من سماء ونجوم وكذلك الأشياء الجامدة أوكل ما يحيط بالفنان ويتفاعل معه بلغة مفعمة بالخيال، تقترب من الفزورة أحيانا ولا تنقصها الدعابة والمرح.