التقلبات والتناقضات هي سمة الحياة السياسية التركية في حقبتها الأردوغانية خصوصا في السنوات القليلة الماضية. وتحديدا منذ إندلاع انتفاضة السوريين ضد نظام بشار الأسد، لكنها تعاظمت على مدار الاسابيع الأربعة الماضية ، وكل المؤشرات تتجه إلى إستمرارها كي تصبح العنوان الابرز للبلاد ، وهي المقبلة على مارثون تشريعي مفصلي ، سيحدد هويتها ونظام حكمها بل وسمعتها في ذات الوقت بالمحيطين الاقليمي والدولي ، وربما يطيح بكيان العدالة والتنمية الذي جثم على صدرها طوال ثلاثة عشرة عاما بالتمام والكمال ، أو على الاقل يحده ويقلص تشعبه ويوقف تغلغله في شرايين الاناضول العتيد . وها هي اركانه تموج بتيارات شتي تكاد تعصف بوحدته ليست بالمعنى الأيديولوجي ولكن إنطلاقا من تعارض المصالح وتشابكها والتي تجسدت بدورها في كثرة الاستقطابات بين أروقته خاصة تلك المشدودة شدا من قبل زعيمه رجب طيب اردوغان مقابل فصائل تسعي للفكاك من سطوة الاخ القائد ، في تمهيد ينذر بتمرد أن لم يكن قد حدث بالفعل على صاحب القصر الأبيض بالعاصمة أنقرة. فرئيس وزرائه أحمد داود أوغلو يبدو أن ضجر من هذا الدور الذي يلعبه أو ما يريده له رئيسه ورغم أنه لم يفصح علنا بتململه ، إلا أنه بات منزعجا من المعارضة وهي محقة التي تصفه بأنه مدير مكتب لأردوغان لا أكثر وأن مقعده بالباشباكلنك ( مقر الحكومة ) مازال شاغرا ، صحيح أن رئيس الجمهورية من حقه دستوريا ترأس إجتماع الحكومة إذا اقتضت الضرورة، إلا أن ذلك لم يطبق عمليا ، اللهم ست مرات فقط خلال العقود الثلاثة التي اعقبت إقرار دستور 1982. غير اردوغان واستعدادا لتحقيق حلمه بتكريس نظام رئاسي بدلا من النسق البرلماني الذي اعتادت عليه تركيا عقب إنقلابها على الامبراطورية العثمانية وحتى الآن ، استغل النص واستدعي مجلس الوزراء بكامله ثلاث مرات في اقل من سبعة شهور. وتفسير ذلك بسيط هو تذكير من إختاره ليحل محله على سدة الحكومة ، أن الأمر مؤقت ، بيد أنه ما ان يجتمع به وبوزرائه يكرر انتقاداته لهم لخطواتهم البطيئة من أجل تفعيل آليات الانتقال إلى النموذج الأمريكي بالحكم ، في إنتقاد واضح لداود اوغلو الذي تأكد له أنه لم يعد متحمسا للتغير ، بعدما جلس على مقعده ، مكتفيا بتقديم دعم محدود لهذا الطلب مكتفيا بوصفه له أنه أحد انظمة الادارة الديمقراطية ، وامتنع عن الدخول في تفاصيل كيفية تاسيسه. ولم يكن هذا الخلاف بين الرجلان هو الاول على مدى 7 اشهر ، فقبل اسبوعين رفض اردوغان استقالة رئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان وترشيح اسمه للانتخابات البرلمانية في يونيو القادم ، رغم موافقة داود اوغلو بل وقبوله الاستقالة ، لكن نتيجة ضغوط الرئيس واصراره على ان فيدان الذي سبق وعينه على قمة الاستخبارات كونه مبعث ثقته وكاتم أسراره اضطر الأخير إلى التراجع والتخلي عن فكرة أن يكون نائبا بالبرلمان ، مسببا حرجا بالغ لاوغلوا الذي أجبر على مضض بتوقيع مرسوم جديد يعود بمقتضاه فيدان لمنصبه الاستخباراتي الرفيع . غير أن هذا الموقف ترك علي ما يبدو ضغينة لديه ، بيد أنه قرر ألا يتجاوزه ، إذ شرع بالفعل في خطة تنتهي فصولها إلى خروجه من وصاية معلمه وقائده ، وإذا حدث ذلك ، فسيعد إنقلاب بكل ما تحمله الكلمة من معان ، وللتاكيد على أن هناك فضاء مغاير ، دخل على خط المواجهة مناوئين آخرين لاردوغان ، وهم بمن يصنفون بما يمكن تسميته الحرس القديم وفي مقدمتهم بولنت أرينتش الرجل القوي في الحكومة والحزب معا. فبالتوزاي مع إحتفالات النيروز ، وعكس ما هو مألوف وجه نائب رئيس الوزراء ارينتش إنتقادا علنيا ، بدا شديد القسوة لاردوغان ، قائلا نصا " أن تصريحات رئيس الجمهورية بخصوص عدم ترحيبه بتشكيل لجنة متابعة مسيرة السلام الداخلي في إشارة إلى المفاوضات مع الاكراد ، تعتبر وجهة نظره وقناعته الشخصية ، وان مسؤولية المسيرة تقع على عاتق الحكومة وحدها" ، ولم يتكف ارينتش Arınç بذلك فحسب ، بل ذهب إلى ما هو أبعد حينما أنبه على انتقاده للحكومة الذي قد يؤدي الى اضعافها وهو أمر من شأنه ايضا الضرر بمكانة رئيس الجمهورية ، المثير أن شبكات تلفاز قريبة من العدالة الحاكم ، حرصت على تكرار ما ادلي به ارينتش Arınç في صدر نشراتها وكأنها ارادت أن تعبر هي الأخرى عن سخطها من تدخلات اردوغان التي تتخطي صلاحياته الدستورية . ورغم أن اردوغان هو من أخذ على عاتقه التفاوض غير المباشر مع زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني الإنفصالية عبد الله أوجلان ، وما اعلنه الأخير من بنود تشكل خارطة طريق كان قد تم الاتفاق على خطوطها العامة ، أي أنها ليست بالجديدة ، إلا أن الرئيس غير مواقفه ، فعلى متن طائرته الرئاسية في طريقه الى اسطنبول عائدا من اوكرانيا ، أعلن رفضه تشكيل لجنة متابعة وقيام 10 أو 15 شخص ( يتم إختيارهم من قبل الحكومة ) بزيارة لجزيرة ايمرالي حيث يقبع أوجلان سجينا ، معتبرا إياها خطوة كارثية على حد تعبيره ، لانها ستمنح الشرعية للزعيم الإنفصالي ، مؤكدا ايضا أنه ليس من الصحيح عقد اجتماع ثم قراءة بيان امام الرأي العام يتلوه نائب رئيس الوزراء واعضاء في حزب الشعوب الديمقراطية ( الجناح السياسي للمنظمة ) من قصر دولمة بهتشة. لكن كل هذه حجج ، فالحقيقة هي أن اردوغان ، أصبح على قناعة بأن حزبه تراجعت شعبيته ، وإذا استمر الحال على ما هو عليه ، فلن يتمكن من إقتناص الأغلبية بالبرلمان ، ومن ثم لن يستطيع تعديل الدستور وبالتالي لن يستحوذ على السلطة المطلقة التي يريد وضعها في يده دون غيره ، وبما أن النزوع القومي المعادي للاكراد في تنامي وخشية التصويت للمعارضة ، من هنا لم يجد مناص سوى النكوص على ما تعهد به ، لعله يستطيع إسترجاع أصوات الناخبين التي خسرها حسب استطلاعات الرأي الاخيرة. لكن فات السيد اردوغان هو أن التصدع في اعمدة الحزب قد حدث وتحفظاته التي أفصح عنها زادت من حدة الانقسام داخل ما كان يعتقد قلعته الحصينة هذا عن مملكته المتمثلة في الحزب فماذا عن الوطن وهو ايضا مأزوم ؟ هذا هو محور التقرير القادم