الحياة تحتاج إلى الشاعرية. والأدب بحاجة إلى الشعر. فى عالم هو ابن الأحداث بامتياز, وابن تطور التكنولوجيا, وسيادة المادية الاستهلاكية, ماذا حدث للشعر, خصوصا, الشعر العربى؟منذ نهضة الحداثة الشعرية والأدبية التى بدأت ملامحها مع أربعينيات القرن العشرين, وتطورت مع النصف الثانى منه. وولدت تيارات وتجارب شعرية حداثية راسخة, رافقتها الحركة النقدية, والتنظيرية وخلقت أسماء رواد الحداثة الشعرية, شىء ما توقف. وزادت ملامح هذا التوقف للتيارات التجديدية مع القرن الحادى والعشرين.كان هناك صهيل جامح للتمرد الشعرى والأدبى, خلق أسماء, مات كثير منها اليوم, ولم يبق سوى القليل الذى ينتمى إلى ذلك الماضى القريب, دون تجديد يذكر.قيل, وتكرر, إنه عصر الرواية عربيا, لكننى لا أرى ذلك كمنجز, بقدر ما هو حركة نشر ناشطة يسوقها الجانب التجارى والإعلامى والجوائز.لا إخلاص كبير للشعر بين أبناء الأجيال الجديدة. ورغم وجود الكثير من النصوص على الإنترنت, وبعض المطبوعات, ومعظمه هزيل, ومن باب الثرثرة الوجدانية أكثر منه الرؤيوية الشعرية, والتجديد فى الكلمة والأسلوب, وربما المضمون.
كما لا نلمح جماعات شعرية على غرار ما حدث فى القرن العشرين, من جماعات مؤسسة مثل جماعة مجلة الشعر فى لبنان, والخبز والحرية, وإضاءة, وأبوللو فى مصر, وكذلك أولئك الذين انتموا إلى تجمعات شعرية شهدتها مجلات مثل الكرمل, ومواقف, وكتابات البحرينية على سبيل المثال. بل أننا لا نشهد حتى حركة اتباع وحواريين من الشعراء الجدد لشعراء من علامات الحداثة الشعرية العربية كما حدث مع من تأثروا بتجارب شعراء كقاسم حداد وسركون بولص وسعدى يوسف ومحمد بنيس ومحمود درويش وأدونيس مثلا. وكم كان لنزار قبانى من متأثرين به صاغوا تجاربهم الشعرية والأدبية الخاصة بهم فيما بعد. ولا نرى بيانات شعرية أيضا, اليوم, كبيانات الحداثة التى طرحت نفسها عربيا حتى ثمانينيات القرن العشرين.
بلا شك أن هناك تجارب متميزة تطرح نفسها, ولكن لا تمثل أمرا مبهرا أو مؤثرا أو خالقا لتيارات شعرية مواكبة للحظة الزمنية الحاضرة.
وهناك ملحوظة لا بد منها,فقد تراجع بعض المجددين شعريا إلى تيار محافظ, وربما تقليدى, وبعضهم عاد إلى القصائد العمودية, وأغراض الشعر المستهلكة. إنها عودة إلى خباء قائم متأثر بالسقوط الحضارى والسياسى والثقافى السائد حاليا فى بلاد العرب.أضف إلى ذلك, أن الجهات الرسمية العربية المعنية بشئون الثقافة, خصوصا, فى الخليج ممثلة بمؤسساتها, إعلامها ومنابرها وجوائزها ومهرجاناتها تغلب عليها الصيغ التقليدية والمحافظة , وربما المعادية للحداثة والتجديد والتجريب الشعرى والأدبى والفكرى. ومفهومها عن التراث هو مفهوم جامد ومقلد لا يحاول تجاوز الماضى, لكنه أيضا لا يستطيع أن يضاهيه, وهو تقليد سطحى جدا, لما يظن أنه الأصل.
وهناك غياب لحركة نقدية عربية حداثية متمكنة, تخرج من عباءات الجامعات والمؤسسات والصحف.
الشعر مقام حرية, وتثوير للرؤية والمفردة والمفاهيم. وهو ضرورى للغاية, لأنه ومنذ بدء التاريخ الإنسانى تعبير حضارى ووجدانى وعقلى عن الإنسان,حضارته, قلقه الوجودى, أحلامه, رؤيته, وتجاوزه للمكان والزمان.
هناك من خانوا الشعر للأسف.
المراكز, والمنابر, والقبول, والتملق, ومجرد الاستمرارية, وكذلك الفشل فى التطور المصاحب لرغبة فى الهيمنة القافية خنق الكثير من الإمكانيات الشعرية للأجيال الجديدة, عبر هؤلاء.
شعوب بلا شعر متجدد, هى أمم محنطة روحيا, ووجدانيا, وإنسانيا.
انظر إلى الشوارع العربية اليوم, يافطاتها, ولغة الأجيال الشابة, وطريقة الحوار. ماذا تسمع, ماذا ترى, ماذا تفهم؟!
الكثير من التقليدية, تعثر اللغة, تخبط المفاهيم, وعجمة الكلام والكتابة, والتسطح المعرفى, والعلاقة المرتبكة باللغة العربية, وربما النظرة الدونية لها من فئة المتعلمين الذين يفضلون اللغات الإنجليزية والفرنسية أو حتى الصينية.
الشعر روح تتبع الجسد.
والشعر المثقف والمتجاوز والمجدد والمبدع هو شعر نخبوى, يقتضى التأصيل المعرفى, واللغوى, والحساسية الوجدانية والروحية.