يمكن للمراقب أن يصف العام الجاري2010 بأنه عام الانتخابات العربية الكبري, ففي ثلاث دول عربية مهمة جرت بالفعل أو ستجري انتخابات برلمانية ستحدد مسار البلاد في المرحلة المقبلة, كما تحدد مستوي النضج الديمقراطي, بما في ذلك قدر النزاهة والشفافية التي تحكم هذه العملية الرئيسية. فقد تابعنا بالأمس القريب انتخابات العراق وما انتهت إليه من نتائج ورددود أفعال, خاصة ما تضمنته نتائجها الكلية من وعي عراقي عام بضرورة التخلي عن النزعة الطائفية كأساس للحكم, وتوزيع المناصب والمغانم. كما أن السودان مقبل بعد عشرة أيام علي عملية انتخابية هي الأشمل والاكثر تعقيدا من بين الانتخابات العربية, حيث سينتخب فيها رئيس جديد للبلاد بين عدة مرشحين أبرزهما الرئيس الحالي عمر البشير مرشح المؤتمر الوطني الحاكم وياسر عرمان مرشح الحركة الشعبية, فضلا عن اختيار رئيس حكومة الجنوب, وحكام25 ولاية ونواب في27 برلمانا تشريعيا في الولايات المختلفة. وفي نهاية العام الجاري ستكون مصر علي موعد مع انتخابات برلمانية جديدة ستمثل بدورها إحدي دورات التطور السياسي في ظل بيئة داخلية وعالمية لم تعد تقبل سوي الاصلاح والتوجه نحو ديمقراطية مكتملة الأركان. ولاشك أن كلا من الانتخابات الثلاثة تمثل في حد ذاتها نموذجا يصلح للدراسة المعمقة, كما أن كلا منها يعطي مؤشرا قويا علي أن الحراك السياسي العربي والتطلع نحو عملية سياسية تستند إلي المشاركة الحرة والاحتكام إلي إرادة المواطنين أصبح أمرا لا يمكن النكوص عنه, فالشعوب باتت أكثر وعيا وأكثر نضجا وأكثر تمسكا بحقوقها برغم العقبات والصعوبات ومحاولات الاستمرار بنهج عقيم والذي تتمسك به بعض القوي الغابرة, أو التي في طريق الانزواء بالمعني التاريخي للتعبير. هذا الجانب الايجابي في شكله العام لا يمكنه وحده أن يكون الأساس في الحكم علي هذه الانتخابات التي ما زالت تتطلب الكثير من التطوير والتحسين حتي تنتفي معها كل مواقف التشكيك والرفض التي يتمسك بها البعض, لاسيما الذين خسروا رهاناتهم مع الشعب ومع أنفسهم, أو هؤلاء الذين يرون مؤشرات هزيمتهم حتي قبل أن يشاركوا في المعركة الانتخابية ذاتها. فالانتخابات في صورتها المجردة تتطلب نظاما تعدديا يؤمن بالمنافسة التي ينظمها القانون, ويقرها الدستور كمبدأ يتسم بالعلو والسمو. وفي دساتير الدول الثلاثة المشار إليها اتفاق في التأكيد علي حق المواطنين الحر في اختيار من يمثلونهم في المجالس النيابية, ومن يتم تفويضهم بالقيام بأعباء الحكم, وهو تفويض يعني منح الشرعية الشعبية والقانونية والدستورية في آن. أما في الواقع فالأمر لا يخلو من مفارقات بعضها تدعمه الوقائع والحقائق والمستندات, وبعضها لا يعدو سوي مواقف كلامية تسعي إلي التغطية علي فشل ظاهر للعيان, والتشويش علي واقع جديد يفرض نفسه مسنودا بتأييد جماهيري ولو نسبي. نري هذا الأمر جليا في موقف رئيس وزراء العراق نوري المالكي, والذي اعتبر نتائج الانتخابات التي أعلنتها المفوضية بفوز قائمة علاوي غير مقبولة ولا تعكس رغبة الناس. رغم أن أداء المفوضية العليا للانتخابات اتسم بقدر لا بأس به من الحيادية والمهنية وفقا للمعطيات المتاحة وهو مايمثل نقطة إيجابية لحكومة المالكي نفسه, ولكنه بموقفه الرافض هذا وما انطوي عليه من تهديد ضمني بعدم الاعتراف بالنتائج ككل جاء كمن ألقي بنقاط سوداء كثيرة علي رداء غلب عليه بياض اللون, لكن الموقف تغير بعد أن تم التدخل عبر هيئة اجتثاث البعث التي شطبت خمسة فائزين من قائمة علاوي, وإذا بها تهبط إلي المرتبة الثانية مما أثلج صدر المالكي ومؤيديه. كما نري التشكيك ذاته في مواقف أحزاب المعارضة السودانية, والذي ينصب علي أداء مفوضية الانتخابات في تسجيل الناخبين, وتوعيتهم بطريقة اختيار المرشحين, وكذلك تشكيك في نزاهة المفوضية ككل, واعتبارها منحازة سلفا للمؤتمر الوطني الحاكم. ومثل هذا التشكيك المسبق يعكس في جزء منه ضعف موقف هذه الأحزاب من جانب, ناهيك عن عدم الإيمان بقيمة ودور العمل الحزبي بين الناس لغرض اكتساب الشعبية التي توصل إلي الحكم لاحقا عبر صناديق الانتخابات. ولا يعني ذلك دفاعا بالمطلق عن أداء المفوضية, والتي وقعت بالفعل في عدة أخطاء معروفة للكافة, بيد أن جزءا كبيرا منها ناتج عن الأداء الحكومي نفسه, وطبيعة القانون الذي ينظم عملها, وكذلك بعض الاشتراطات الواردة في اتفاق نيفاشا للسلام في الجنوب. ولذلك فإن محاولات الضغط علي المفوضية لكي تؤجل الانتخابات مرة ثالثة إلي نوفمبر المقبل تبدو نوعا من العبث السياسي لا أكثر و لا أقل. إذ يعلم الجميع أن التأجيل لمدة ستة اشهر لن يحمل معه أية تغييرات جوهرية علي معادلات السياسة والحكم الراهنة, ولعل طلب التأجيل فيه فقط نوع من محاولة تحسين الاوضاع الذاتية ولو جزئيا لكل حزب. مصر أيضا تشهد حالة تشكيك في نزاهة العملية الانتخابية المقبلة رغم أنها لم تبدأ بعد, تأخذ طابعا خاصا من خلال المطالبة بتوسيع عمليات الرقابة المحلية أو الدولية, باعتبارها ستعوض ولو جزئيا غياب الإشراف القضائي علي مجمل خطوات العملية الانتخابية. كما تأخذ طابع المطالبة بتعديلات دستورية أو إصدار قوانين جديدة لمباشرة الحقوق السياسية. وفي كل هذه الأشكال إصرار علي ربط نقاط الضعف الذاتية لكل حزب برغبة الحزب الوطني إبقاء الوضع علي ما هو عليه نظرا لما فيه من فوائد تسمح له بالفوز الكاسح في الانتخابات البرلمانية المقبلة وما بعدها. الملاحظة الجديرة بالدراسة هنا هي أن هذا التشكيك أو الضجر السياسي بمختلف أنواعه وأشكاله ينطوي علي قدر من عدم النضج السياسي, سواء عدم نضج بعض اللاعبين السياسيين كأفراد وقادة حزبيين وأحزاب, كما ينطوي أيضا علي عدم نضج العملية السياسية نفسها وحاجتها إلي إعادة ترميم ديمقراطي يأخذ في اعتباره توسيع مساحة المشاركة وتفعيل الحياة الحزبية ورفع ما فيها من قيود لم تعد في محلها, فضلا عن الحاجة إلي ضوابط قانونية وإجرائية واضحة تحمي هذه المشاركة في كل مراحلها. لكن بعيدا عن المواقف بمستوياتها المختلفة, لابد من الاعتراف بأن التحول إلي انتخابات ذات درجة معقولة من الحرية وتخضع لقدر من الرقابة المحلية والدولية, كما هو ظاهر في حالتي العراق والسودان, يعبر عن خطوة إيجابية لابد من تقديرها والعمل علي تطويرها. صحيح سوف نجد من يقول أن انتخابات معيبة ستؤدي إلي جلب نفس الحكومة ونفس الحكام, وستضفي شرعية علي من لا شرعية له أو يجب ألا تمنح له شرعية شعبية عبر انتخابات شكلية, وهو جزء مما يقال الآن في الساحة السودانية بالفعل. ورغم الاعتراف بأن نقدا كهذا لا يخلو من وجاهة سياسية ومعنوية, غير أن البديل يجب ألا يكون وقف العملية كلها أو الضرب بها عرض الحائط. فخروج الناس للمشاركة في الانتخابات وتعويدهم حق الاختيار مسألة تتطلب ممارسة وتدريب وتوجيه, وهي كلها مما يجب أن تحرص عليه الأحزاب وقوي المجتمع المدني, لا أن تدعو إلي تعطيل العملية برمتها لأنها ليست راضية عن بعض خطواتها. ففي مثل هذا الموقف ضرب في العملية الديمقراطية نفسها. وعلينا هنا أن نذكر بأن العراقيين لم يختاروا حكامهم قبل بدء العملية السياسية الراهنة, والتي بدأت للأسف في ظل احتلال امريكي سيجد أن عليه أن يرحل في غضون العام المقبل, حتي وإن ترك بعض قواته وفقا للاتفاقية الأمنية الموقعة مع الحكومة العراقية قبل عام ونصف تقريبا. وعلينا ان نلاحظ أيضا أن انتخابات العراق الاخيرة ونتائجها المعلنة جذبت تدخلا ايرانيا مباشرا في محاولة لتشكيل تحالف سياسي بمواصفات خاصة ليحكم العراق في المرحلة المقبلة, ويستند في سياساته إلي تعميق العلاقة مع إيران, وتعميق الحضورالايراني في الداخل العراقي. وهو أمر ينذر بشيء من الخطر, لا يمكن الوقوف امامه إلا بتعميق العملية الديمقراطية والتضحية أيضا من أجلها. وعلينا أن نذكر بأن الانتخابات السودانية المقبلة هي التزام وطني ودولي قبل أي شئ آخر, وهي جزء مهم من ضوابط هذه العملية ومبادئها مرتبط بتطبيق اتفاق نيفاشا, ولذا فإن حسن تطبيق الانتخابات المقبلة بغض النظر عمن يفوز أو يهزم يعني حسن تطبيق اتفاق السلام نفسه, لعل ذلك يقود إلي إعلاء صوت العقل الجمعي المتمسك بوحدة البلاد والعباد, في الاستفتاء الأخطر المقرر عقده العام المقبل.