عندما شاهد الراحل شادى عبد السلام إحدى المرشدات السياحيات فى الأقصر «تشرح» للسياح معالمنا المصرية القديمة على نحو يغبن أجدادنا القدماء انفعل وثار وحرر لها محضرا فى قسم الشرطة لأنها تسئ لتاريخنا القومى . لكن المرشدة السياحية «دافعت» عن نفسها بأنها استقت ما قالته من مراجع ب علمية ا غربية فى المصريات القديمة . وهو ما يحثنا على أن نعيد النظر فى النظرة المطلقة للعلم الحديث ، وكأن مجرد تماما عن المصالح الاجتماعية التى أنتجته . وقريبا ثارت الصديقة إيمان نجم على تمثال لشامبوليون فى أكاديمية «الكوليج دو فرانس» فى باريس إذ يصوره واضعا قدمه فوق رأس إخناتون . فهل نصر مع ذلك على أن قراءته لتراث أجدادنا القدماء كانت «موضوعية»، وعلمية تماما، أم أنها بحاجة للمراجعة الناقدة من جانب باحثينا المتخصصين، بدلا من الانصياع وراءها وكأنها مقدسات لا تقبل النقاش؟! ألا يثير ذلك على الأقل سؤالا يتعلق بالبحث العلمى فى بلادنا بصورة عامة، وليس فى المصريات القديمة وحدها ، يدعونا لبعض «الظن» فيما نستقبله من نتائج بحثية فى أى من مجالات العلوم والفنون، بل بفرض أن باحثيها، خاصة من الغربيين، كانوا جد «مخلصين» فيما ذهبوا إليه من اكتشافات؟ وأن نعيد النظر فيها، ونختبر مدى مصداقيتها ابتداء من الاختلاف الموضوعى بين سياقاتنا المجتمعية وواقعنا الطبيعى ، وسياقاتهم التى أنتجت رؤاهم ومن ثم مواقفهم المدافعة بصور شتى عن مصالح مجتمعاتهم فى عصر هيمنتها على عالم اليوم تبريرا لاستحواذها على معظم خيرات افريقيا ، وآسيا ، وأمريكا الجنوبية عن طريق آليات السوق العالمية وشركاتهم دولية النشاط التى تمثل استمرارا للاستعمار السابق فى صورة اقتصادية جديدة . فكيف يجوز لنا أن نفصل بين مصالح تلك البلاد وما تنتجه من معارف تخصصية فيما يتعلق بتاريخ وحاضر الشعوب التى كانت خاضعة سياسيا لهيمنتهم ، وقد صارت الآن خضوعه لإنتاجهم البحثى دون أى مراجعة ناقدة ، أو حث على الإضافة النابعة من اختلافنا الموضوعى عن السياقات التى أنتجت معارفهم «العلمية» ؟ أم أن العلم عندنا صار بديلا للمطلقات العقائدية لا يحتمل المراجعة ابتداء من الاختلاف الموضوعى للسياقات التى تنتجه؟ أليس من الخطل مثلا أن نحاكى الجامعات الغربية فى كل ما تذهب إليه من «تخصصات» ونقيم فى جامعاتنا أقساما لما يدعى «الحضارة الأوروبية» بالمفرد، وليس بالجمع، على الرغم من أن جامعة «لاسابينزا» (أى الحكمة)، على سبيل المثال ، قد قررت على طلبتها نقدى المنهجى للأسس النظرية التى قامت عليها تلك الخرافة التى تدعى «وحدة» مزعومة بين الثقافات الغربية بينما الاختلافات الموضوعية بين بعضها البعض لا تقل عن الاختلاف بينها وبين كل من الثقافات غير الغربية ؟! (أنظر دراستى: خرافة الأدب الأوروبى، فى: الأدب الأوروبى من منظور الآخر ، تحرير فرانكا سينوبولى ، المشروع القومى للترجمة ، القاهرة ، 2007 ، ص 97-147 ، واعتراف الباحث الإيطالى الكبير «أرماندو نيشى» فى الكتاب نفسه باستيحائهم لنقدى هذا لتحرير أنفسهم من تلك النظرة الأسطورية، أو بالأحرى الخرافية ص149، (المرجع نفسه). فان يسلم باحثون غربيون بأن دراستى هذه قد ساعدتهم على التخلى عن الترويج لما يدعى «الأدب والثقافة الأوروبية بالمفرد» بينما نتجاهلها نحن ونصر على الانصياع لتلك الخرافة فى جامعاتنا المصرية والعربية باسم «لعلم» فكيف نفسر ذلك؟!! ولم لا وإعلامنا ذاته يغص فى لغته بما يدعم هذا التوجه المعيب حين يشير للثقافات والمعايير الغربية على أنها «عالمية»؟ بل حتى فى نشرة الطقس حين ينتقل للبلدان الغربية على أنها «العالمية» وفى لغة الحديث اليومى حين يخاطب المرء بقوله «يا مستر» كنوع من «التكريم»؟! أرجو ألا يفهم مما أقول أننى أرفض الإنتاج الغربى فى أى من مجالات الحياة ، ناهيك عن التخصصات الدقيقة ، ولكنى أدعو لنزع النظرة الأسطورية إليه ، وإعادة اختباره ابتداء من اختلاف سياقاتنا الموضوعية عن السياقات التى أنتجته. فهذا هو ما يمكن أن يحقق إضافاتنا المثرية لحياتنا الفكرية والعملية، فضلا عن تعزيز استقلالنا المجتمعى والحضارى. فكلما أضفنا لما نستقبله من تراث الآخرين فى أى من التخصصات الدقيقة، صرنا أكثر نفعا لأنفسنا وللآخرين على حد سواء . وقبل أن أنتقل لتفصيل القول فى هذا المقام أود أن أشير لما تعرضت له فى مقالى السابق عن قراءة زفيرمانس لنص «نصرة حورس». فقد تناول هذا النص الصراع بين حورس، رمز الخير، وسيت، رمز الشر فى مصر القديمة ، الذى ينتهى بنصرة حورس على غريمه. أما إضافة «فيرمان» لتراث معاصريه وأسلافه من الباحثين الغربيين فى المصريات القديمة فيتلخص فى أنه بدلا من قراءة نص مبايعة الحاكم آنذاك بوصفه «طقسا» عقائديا، يفصل فيه بين المؤدين والجمهور ، إذ بقراءته المختلفة التى لا يفصل فيها بين النص والصور المحفورة على حائط معبد إدفو ، تفضى لترجمة مغايرة تماما لما ذهب إليه زملاؤه، إذ تبين أن ذلك العرض كان يقام على ضفاف بحيرة معبد إدفو، وليس كطقس دينى داخل المعبد، وأن الجمهور كان مشاركا أساسيا فى العرض بحيث يتعذر التمييز بينه وبين العارضين فيه على نحو يقارب ما ذهب إليه يوسف إدريس من حالة «التمسرح» التى دعى إليها فى الستينيات. لمزيد من مقالات د. مجدى يوسف