فى البدء كانت الصورة . ثم صارت حرفا فكلمة . ونسينا أنها فى الأصل صورة . فوقعنا فى التيه . وصدقنا ما خاطه لنا المستشرقون من «صور» عن تاريخ أجدادنا المصريين القدماء فصلوا فيها بين الصورة والنص وخرجوا علينا بترجمة لتراثنا المصور على أكتاف المعابد بأننا لم نعرف المسرح كما عرفه من بعدنا الإغريق فى ساحات الفضاء الحر، وإنما من خلال الطقوس العقائدية فى معابدنا القديمة. ظللنا أسرى هذه الصورة عن تاريخنا البعيد إلى أن سأل أستاذ للدراما فى لندن طالبة لديه تصادف أن كانت ابنة باحث كبير فى المصريات القديمة ، أن تسأل والدها إن كان لديه نص مسرحى مصرى قديم. وعندما فعلت حدثت الواقعة التى غيرت صورة المسرح فى مصر القديمة رأسا على عقب . فقد تذكر والدها «فيرمان» نصا مصريا قديما ظل حبيس الأدراج عقودا طوال ، بعد أن رفضه أستاذه «بلاكمان» لأنه لم يمض على «هدى» قراءات المستشرقين الغربيين لنصوصنا المصرية القديمة التى كانت تفصل بين الصورة والنص فى الكتابة الهيروغليفية . وكان «دريوتون» الفرنسى ، الذى ظل مديرا للمتحف المصرى على مدى عقود طوال فى النصف الأول من القرن العشرين ، من أشد المتحمسين لتلك القراءة التقليدية التى تزعم أن أجدادنا القدامى لم يعرفوا العروض المسرحية فى الهواء الطلق . وهو ما صار يشكل «عقدة دريوتونية « لدى معاصرينا المصريين الباحثين عن أصول للمسرح فى بلادنا من أمثال على الراعى ، ويوسف إدريس . فلم يجرؤ أى منهم على تجاوز بابات ابن دانيال لعروض خيال الظل فى القرن الثالث عشر الميلادى. أما هذا الذى حدث فى عام 1974 عندما نشر «فيرمان» كتابه « نصرة حورس» The Triumph of Horus مناقضا فيه قراءة معاصريه المستشرقين لنصوصنا المصرية القديمة ، بأن وضع الصورة والنص كوحدة جدلية واحدة ، فقد فتح به فتحا مبينا فى تخصصه. وبينما كنت أتردد على معهد المصريات القديمة فى جامعة كولونيا ، حيث كنت أحاضر فيها عن «الثقافة العربية المعاصرة» التى أسست فرع دراساتها فيها بعد أخذ ورد ومناقشة ونشر فى مقابل المستشرقين الألمان فى تلك الجامعة الذين كانوا يتوقفون عند مقدمة ابن خلدون ، ولا يرون ما يستحق أن يقدم من إنتاج ثقافى لنا بعدها ! ، إلى أن اقتنعوا ببراهينى فى عام 1965، ومن ثم دعونى فى ذلك العام لتأسيس وتدريس ذلك الفرع الجديد من الدراسات العربية للمرة الأولى فى التاريخ الحديث للجامعات الألمانية ، أقول بينما كنت أتردد بانتظام على معهد المصريات القديمة فى جامعة كولونيا ، إذ بمديره يبادرنى بقوله فى عام 1974 أن ثمة «ثورة» جديدة فى تاريخ المصريات القديمة قد حدثت لتوها بصدور كتاب «فيرمان» آنذاك «نصرة حورس» الذى نفى فيه، من خلال قراءته المختلفة للنصوص المصرية القديمة ، الفصل التقليدى بين الصورة والنص ، على نحو ما كان يفعله زملاؤه وأسلافه من المستشرقين الغربيين الذين أفضت قراءتهم للزعم بأن أجدادنا المصريين القدماء لم يعرفوا المسرح بعيدا عن الطقوس الدينية فى معابدهم . بينما أدت قراءة «فيرمان» البديلة لنص «مبايعة الحاكم» على كتف معبد إدفو فى عام 110 قبل الميلاد إلى نتيجة عكسية تماما . ولئن كانت هذه القراءة الجديدة لتاريخ المسرح فى مصر القديمة قد شكلت «منعطفا» خطيرا فى علم المصريات القديمة فى الغرب ، فقد استعنت بها على التحرر مما سميته «عقدة دريوتون» لدى مثقفينا المصريين فيما يتعلق بصورة المسرح فى مصر القديمة. وبنيت على قراءة «فيرمان» الجديدة تجاوز عقدتهم ، لا سيما أن لويس عوض كان قد أسس عليها نظريته فى المسرح المصرى التى تبرر التبعية للمسرح الإغريقى (أنظر: ردى عليه المعنون « لويس عوض والمركزية الأوروبية» فى كتابى «معارك نقدية» ، الطبعة الثانية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2007 ، ص345-373) . وكنت قد برهنت فى الفصل الأول من كتاب لى صدر بالألمانية بعد كتاب «فيرمان» بعام واحد ، فى نوفمبر 1975 ، تحت عنوان « مدخل اجتماعى لتفسير الإقبال على مسرح برخت فى مصر الستينات « على نقض تبعيتنا المسرحية المترتبة على ما صار يروج له فى جامعاتنا بناء على أعمال لويس عوض ومن سار على نهجه ، القائلة بأن مصر لم تعرف المسرح غير العقائدى على نحو ما عرفه الإغريق . وللحق فقد أعرب لى الراحل محمد يوسف نجم فى السنوات الأخيرة من حياته عن حماسته لنقدى الاجتماعى الثقافى لمدخله المحض لغوى الذى لم يختلف كثيرا عن منهج لويس عوض وأتباعه عندما قرأ نقدى المنشور فى المجلة « العالمية لأبحاث المسرح « Theatre Research International فى عددها الصادر فى صيف 1999 لكتاب المستعرب البريطانى التقليدى الذى مضى على نهج يوسف نجم : « فيليب سادجروف» الصادر عام 1996 تحت عنوان : « المسرح المصرى فى القرن التاسع عشر». وقد نشرت ترجمة عربية لنقدى المذكور فى مجلة «فصول» فى عددها الصادر فى ربيع صيف 2008 والآن قد يثور سؤال: لم لم يصدر بالعربية كتابى المشار إليه والصادر بالألمانية منذ أربعة عقود ، خاصة أنه قد لاقى بسبب منهجه الاجتماعى الثقافى احتفاء خاصا من النقاد الغربيين فى كل من ألمانيا ، وفرنسا ، وكندا ، والولايات المتحدة على مدى خمسة عشر عاما متواصلة ، حتى عام 1990 ؟ لمزيد من مقالات د. مجدى يوسف