يحكى أنه كلما حل فصل الشتاء، كانت هناك سيدة أمريكية فى أواخر الخمسينات من عمرها اعتادت أن تأتى إلى شاطئ رأس البر، وما من أحد رأها إلا واعتقد أنها فاتنة فى الثلاثينات من عمرها، هذه السيدة وبمجرد وصولها إلى المدينة لا تفعل شيئا سوى أنها ومع نسمات الساعات الأولى من فجر كل صباح تستيقظ مبكرا، وعلى رأس لسان الشاطئ المتمدد بين أمواج البحر تجلس، وفى استرخاء شديد تغمض عينيها لتترك وجهها يطل ويتلقى رذاذ وبخار الأمواج الشتوية المتلاطمة مستمتعة بشرتها بموجة وراء الأخرى، وفى ثبات عميق ولمدة زمنية قد تتجاوز الثلاث ساعات تظل بشرة السيدة الأمريكية أسيرة لهذا البخار والرذاذو مستنشقة فى استمتاع صامت روائح البحر الهادرة من بعيد، لتواظب على هذا البرنامج لمدة أسبوعين ربما أكثر. المتابعون للسيدة الأمريكية والملاحظون عشقها لهذا المكان سألوها: يا ترى لماذا هذا المكان وفى هذا التوقيت بالذات وكل عام ..فهل هناك سر وراء هذا العشق؟ تتنهد السيدة الفاتنة وتبتسم وتجيب: كم تكرر هذا السؤال وكم أجبت عليه، ومع ذلك لن ينتابنى الملل وساظل اجيب وأكرر إجابتى لعل وعسى أن تعرفوا أيها المصريون قيمة وأسرار وسحر طبيعة مدن الشتاء والبحر فى بلادكم وبالأخص هذه المدينة، فهى سر الصبا والجمال وسحر الأنوثة وعدو السرطان، فما من مرض يصيب البشرة وجلد الوجه واليدين والساقين إلا وقضى عليه رذاذ وبخار أمواج بحر راس البر، فهى سر الشفاء والشباب. وأما الحكاية التى قد ننفرد بنشرها لأول مرة هى مايردده بعض الأصدقاء المقربين من الرئيس الأسبق حسنى مبارك وكيف كان يحلم بأن يقضى ما تبقى من عمره هنا فى رأس البر ولايفعل شيئا سوى أن يجلس على شاطئها ويستسلم لرذاذ وبخار امواج بحرها، فحسب نصائح ومعلومات أطبائه المعالجين، أن مياه هذا المكان من المياه النادرة فى العالم التى تتمتع بخصوصية إحتوائها على غاز الأوزون، وكيف لغاز وجوده يحمى الحياة على طبقة الأرض من أشعة الشمس فوق البنفسجية لا يحمى إنسانا ويحافظ على صحته وذاكرته، فالأوزون، لمن لايعرف وحسب العالم الألماني أونو ماريورح، الحاصل على جائزة نوبل، غاز يقهر السرطان ويعالج الاعصاب وضعف الذاكرة والقصور فى الدورة الدموية وهو ماكان ولازال يعانى منه الرئيس الأسبق. مما يجعل رأس البر تستحق وبحق لقب مدينة الشفاء والشتاء إن لم يكن مدينة الثلاثية «الشفاء والحرير والصيد». مهجورة شتاء .. مزدحمة صيفا ومدينة رأس البر للأسف الشديد كسائر المدن الساحلية فى الشتاء، ما تزال يهجرها الاستثمار الزوار باستثناء نفر قليل يؤمنون بأن سر عبقريتها يكمن فى شتاوها ومطرها وثلوجها ونواتها العاصفة، ونحن فى صفحة المحافظات وفى اطار رحلتنا التى بدأناها فى «وصف مصر من تانى» نحاول أن نكشف أن أسرار نجاح الاستثمار واقتصاديات هذه المدن لايتألق إلا عندما يدق الشتاء أبوابها خلافا لم يتصوره البعض من رؤى تقليدية عقيمة أضاعت وأهدرت مفاتيح من السحر والرزق والخير الذى تكاد أن تراها كلما مررت بعيونك فى جوانب وجدران منازلها وشوارعها فى عز المطر والبرد. لسان فصيح وأسرار فريدة نعم هى ليست كأى رأس، عنده يسترخى نهر النيل في أحضان البحر المتوسط بعد رحلة طويلة شاقة في أعماق القارة السمراء طولها 6 آلاف كم، وعلى جنبات شطآنه يذوب البحر والنهر عشقا وهياما دون أن يطغى أي منهما على الآخر أو يبغي عليه ولسان يفصح عن آية كونية فريدة ومظاهر جمالية خارقة. وكانت رأس البر تعرف قبل الفتح العربي باسم «جيزة دمياط»، غير أن التسمية الحقيقية كما يفسرها أحد أبنائها المتيمين بها اللواء رفعت الجميل، تعود إلى رجل سورى يدعى اللوزى أسس مصنعا لإنتاج الحرير الطبيعى على دودة القز وهو حاليا مصنع الغزل والنسيج بدمياط الذى تم خصخصته وتصفيته، هذا الرجل كان عنده صداع نصفى ومريض ويعالج عند دكتور لبنانى، وكانت النوة الشتوية فى بدايتها فشحطت سفينته في دمياط وكانت المنطقة صحراوية، فنزل من المركب وأقاموا له خيمة حتى يأتوا بمراكب شراعية لتعويم المركب، وصل الناس إلى البر الآخر في الشيخ ضرغام، والمركب في نهاية البوغاز شحطت فى آخر جزء في الأرض، وهو بعد اللسان المعروف حاليا بحوالى كيلو فقالوا إن المركب رست عند رأس البر ومن هنا جاءت التسمية. أما الرجل السوري والكلام لرفعت الجميل فشعر بارتياح وذهب الصداع عنه فلم يسافر، وأرسل في طلب شقيق زوجته ويدعى القبرصى وبنوا عشة من «البوص» و«الخشب» وجلسوا فيها وشعروا بأن الجو أفضل. بدأ الاهتمام برأس البر عام 1823 على يد اليهود المصريين الأوائل مثل «كايزك» فى شارع فؤاد و«كورتيل» صاحب فندق بشارع عبد الخالق ثروت الذين كانوا يزورون اللوزي في رأس البر ، وبالمناسبة عمر أمريكا هو عمر رأس البر حيث ولدتا معا فى نفس العام، وحسب شهادة الجميل يحكى أن بداية إنشاء رأس البر الحقيقية كانت عندما كلف محافظ الدقهلية مسئول البلدية في المحافظة ليخطط رأس البر ويقوم بتأجيرها، فجاء رجل يهودي اسمه «متري معلى» صمم الوحدات في المنطقة بحوالي 217 مترا ودور واحد وصرف في البيارات، والمياه تأتي من دمياط ويوزعها السقا، وأول إيصال من 220 سنة كان المتر ثمنه 2 مليم إيجار شهريا من مايو وحتى أكتوبر ثم يتم إزالة كل ذلك فيما بعد. ويضيف رفعت الجميل: أنا من مواليد رأس البر بمنطقة إسمها طابية الشيخ يوسف في شارع 14 أو 16 حاليا وفيها فيلا كابتن مصر رفعت الفناجيلي، والطابية كان عليها ثاني أكبر مدفع في العالم وما زال حتى الآن في المعارض في مصر، وكان يتصدى للسفن التي تهاجم مصر، كان والدي يصل إلينا بالمركب ثم يعود إلى عمله. وأحضر إمام المسجد أول مولد كهرباء في رأس البر بإيجار 50 قرشا طول فترة الصيف لحوالي ثلاث لمبات لكل عشة، بدأ التوسع التدريجي إلى أن تم عمل طريق غربي كان عام1951، وأول سيارة دخلت رأس البر كانت طفطف الشيخ محمد فايد، وتجرها سيارة جيب من الجيش الإنجليزي تسحبها لجولة على اللسان من الخامسة مساء بتعريفة محددة، وكان الكمسرية كلهم من تلاميذ المدارس ويبيعون حلويات على البلاج، وكان كل الطلبة الدمايطة يشتغلون في الصيف، وأشهر هؤلاء كمال خشبة المحامي الشهير بقضايا حل مجلس الشعب مرتين. وزار رأس البر أفراد العائلة المالكة منذ عهد محمد على، مثل الملكة نازلى والتى كانت تهوى الصيد على منطقة اللسان، وكذلك الملك فاروق، والزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وأعضاء مجلس قيادة الثورة، وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطى وعبد المطلب وأسمهان، التى توفيت إثر حادث اليم وهى فى طريقها إلى رأس البر. ويستطرد رفعت الجميل بقوله: بنى متري معري اليهودي بناية هي فندق الهوم القائم حتى الآن وبنى كل فيلا في المدينة لتطل على أربعة شوارع، وصمم بعض الأغنياء مثل فؤاد باشا سراج الدين على ضم وحدتين معا، فبنى له على مساحة 434 مترا وتسمى النمرة الكاملة، وجاء بعض المسئولين في العصر الحديث وبنوا أشياء غريبة شوهت اللمحات الجمالية وأغلقت رؤية البحر. ويحكي الجميل عن تطوير رأس البر في العصر الحديث عندما كان رئيسا لمجلس أمنائها وشكل المجلس من 30 عضوا عام 1997 بتكليف من محافظ دمياط حينها المستشار أحمد سلطان، وتم إعداد 18 مشروعا للتطوير، وفي عهد الدكتور فتحي البرادعي محافظ دمياط الأسبق تم تنفيذ ثمانية مشاريع لتطوير رأس البر منهم الكورنيش وإزدواجه وغيرها وكانت تكلفتها الإجمالية 400 مليون جنيه تم تدبيرها بعيدا عن ميزانية الحكومة عن طريق بيع جزء من الأراضي ونجحت في تذليل كل المصاعب القانونية والفنية بما فيها إستصدار قرارين جمهوريين من الرئيس حسني مبارك ، حتى أن إحدى القطع بيعت بمبلغ 12 مليون جنيه.