ديوان محمد سليمان الجديد إضاءات يذكرنا عنوانه بمرحلة شباب جيل السبعينيات من شعراء الفصحي, حيث أصدرت مجموعة متآلفة من الأصدقاء نشرتين شعريتين مختلفتين ومتخالفتين بعنوان إضاءة77, وأصوات. وأعتقد أن سليمان انتمي للمجموعة الثانية, ولكن بغض النظر عن هذه التفصيلة, فإن عنوان ديوانه الأخير يعبر في اعتقادي عن شجن وحنين للمرحلة, للصبا والعنفوان.. للبحر, بمعني التمرد والجبروت والصخب السيمفوني, للشعر الأسود الذي يتذكره الآن بشجن الأبيض ذي الزبد المتطاير.. والواقع أن البحر هو العنوان غير المعلن للديوان, هو الصورة المجازية المركزية التي تعبر عن التمرد بصور كثيرة, التمرد علي القاهرة, علي رمادية الأيام, تمرد الشعر علي النثر, تمرد الشاعر علي الصيدلية( محمد سليمان طبيب صيدلي), تمرد الذكري المؤيدة بالحنين والخيال علي اللحظة الحاضرة. وإذا استعرنا الأساليب الإحصائية- التي لا أؤمن بجدواها كثيرا- من النظم النقدية المتعالمة لوجدنا أن ذكر البحر يأتي في سبع عشرة قصيدة( مع استبعاد حالات قليلة غير مؤثرة) من بين ثلاثين. وهي نسبة عالية تعبر بالتأكيد, عند شاعر متمكن, عن حضور رمزي متماسك ومتبلور له فحوي محددة هي أبعد ما تكون عن العشوائية والارتجال. بين هذه القصائد السبع عشرة, ثلاث أفردت للبحر, واحدة بعنوان في البدء كان البحر(2009) وقصيدتان فرعيتان في باب إضاءات(2008/2009). ومن الجائز, طبقا لهذه التواريخ, أن تكون القصائد الثلاث قد كتبت في أزمنة شديدة القرب. إلا أن البحر موجود في كل الأزمنة, فستري معي في مختارات من قصائد الديوان, الذي كتب ما بين عامي2007 و2010, حضور البحر القوي وتشم رائحته. يبدأ الديوان بقصيدة لم أبن كخوفو هرما(2010). البحر هنا يكاد يكون مرادفا للشعر:.. قلت سأسجن بحرا في الكلمات/ لكي يقصدني الحوت/ وأضرب بعض الماء ببعض الماء/ لأشعل نارا.. والشاعر هنا ساحر. والشعر والسحر والبحر نوع من التمرد, التمرد علي المنطق والتمرد علي الممكن والمستحيل وعلي الضآلة- في إطار كل ما هو واقع ومفروض. وفي شعشعة, الجميلة التي كلها عن البحر, صلاة إلي البحر, وقد يكون الشعر المطلق الذي يريد الشعر المتعين في شخص الكاتب أن يستحضره ليستوهبه عرامته وبكارته المطلقة من أجل تجديد نصيبه منها, وقد يكون للبحر معان أخري أخنقها بهذه الترجمة, يكفي أن نقول: صلاة للمطلق, بحر الجمال وبحر المعاني( فالاثنان واحد): حين يصير البحر صديقا/ سأغير مائي/ وأزيح هواء مثل رخام يحبو/ وأهز دفوف الموج لأوقظ حوتا/ وأشد من الأطراف قصائد.. يلهو/ كدلافين اللؤلؤ فيها... وتراني امرأة غرق البحر الأحمر/ والأبيض و الأخضر/ في شهفتها.. وأقول استبدل آدم بالفردوس امرأة/ كي يصبح أتقي/ ويصافي سفنا ومحاريث و عرقا/ وفساتين تسافر فيها/ شعشعة الموسيقي... وفي قصيدة من نفس الباب, بعنوان حين تطير الطيور يتأكد هذا الترادف بين الشعر وبين البحر( الترادف الذي لا يصل إلي أن يقتل أحدهما الآخر): حين تطير الطيور/ وتمشي الكلاب علي أربع/ سأسامح جارا/ وأستوقف البحر في شارع أو كتاب/ لكي أطمئن عليه/ وأسأله عن وجوه تسافر فيه/ وحوت تواري.. للمرة الثالثة يتكرر ذكر الحوت. وأعتقد أن سليمان يستخدمه لكي يحرر البحر- بملحقاته- من شيئيته, ويكسبه بعد الحواديت وأحسن القصص فيصلح أن يكون نقيضا لنثر كل يوم. وللمرة الثالثة أيضا تتكرر العلاقة- إن علنا أو إيحاء- بين البحر والكتابة. وفي الباب الأخير بعنوان أسفار قصيدة ترد علي حين تطير الطيور بعنوان كي تحط طيوري.. يقول سليمان: .. وبحري تسلل من ر احتي/ ولم يبق منه سوي سمك/ سابح في الجدار/ وبعض الصور.. وتؤكد هذا المعني قصيدة أخري في أسفار بعنوان في الصباح: في الصباح/ ستسحب من هوة شبحا/ وتحصي السلالم تفضي إلي البحر/ لا أنت موسي/ ولا الشعر صار عصا في يديك/ تشق بها/ أو تشد السمك نفس النغمة الحزينة في تنويعة أخري ب أسفار, تحمل عنوان ضع نجمة علي يدك: .. صاحبي هنا/ يرص لم يزل شموعه/ ويرتدي ملابس البحار/ بعدما/ تخشب الفضاء حوله/ وغابت السفينة .. هل يمكن أن يكون هناك حزن وموت بهذا المقدار؟ أن ينخشب الفضاء؟ ولكن للشعراء أحوال يا سيدي. انظر إلي هذا الغني.. إلي هذا الملك: ماذا أفعل بأساطيلي/ وبلقب أمير البحر/ وستر الغواصين/ وماذا أفعل بمحارات/ في المجهول تغوص وتطفو/ لكي تتواثب فوق الماء/ وتحت الماء/ وحولي؟ ( بحار- باب إضاءات) وفي القصيدة التي تليها بعنوان ربما, يقول معقبا: ولم أعد/ في الحلم/ أرسم المحيط كي أخطو/ علي تلال الموج ساحبا/ ورائي الأصداف والحيتان واللآلي.. ثم يشرح سليمان للذي لم يفهم: .. ولم أعد/ أدور في الميدان هاتفا/ أنا هنا إلا أن صاحبي يرص لم يزل شموعه في إضاءات تكشف عن وجه مليء بالتنهدات الساكتة, وملابس شتوية تخشي برد الحنين, ورباط عنق يريد للشعر أن يرعوي ويخرس, فلا يرعوي الشعر ولا يخرس: بلغات شتي/ يتحدث موج البحر معي/ ويصفر.. أو يتكسر/ أو يتهادي/ ويقول حبوت ودرت وسرت/ وطرت كنخل/ لكن الشاطئ لم يمنحني/ حين تعبت فضاء/ أتلون فيه و أبني/ لقناديلي بيتا.. ربما كان هذا العمل من أكثر دواوين محمد سليمان و حدة عضوية.. ولقد أعطاه البحر هذه الوحدة. وقد بلغ به التوحيد أن جعل البحر سفر تكوينه, لكنه ليس تسبيح الصوفية, بل لا يغيب عنه البعد الأرضي: في البدء كان البحر. في البدء كان الموج غابة وكانت المياه تركب المياه.. الكتاب هو الأول في سلسلة ديوان الشعر العربي التي تصدر عن هيئة الكتاب, وحسنا فعلا رئيس تحريرها الشاعر السماح عبدالله أن بدأ سلسلة متميزة بهذا الديوان المتميز. المزيد من أعمدة بهاء جاهين