تعترف أصوات غربية بأنها لم تهتم بتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش» كما ينبغي، ولم تدرك أبعاده، واعتبرته امتداداً لتنظيم القاعدة الشهير، أو نسخة محدثة منه، فى حين أنه فى الواقع نسخة أكثر تخلفا من ذلك التنظيم الذى تربع على عرش الإرهاب الدولى بزعمائه المعروفين أسامة بن لادن وأيمن الظواهرى وأبو مصعب الزرقاوى، وغيرهم. يقود «داعش» الرجل الغامض، الذى شكك البعض أحيانا فى وجوده، المعروف بشدة لدى الولاياتالمتحدة: أبو بكر البغدادى، الذى كان طرفا أساسيا فى المليشيات المسلحة فى العراق، وألقى القبض عليه، وظل حتى أواخر عام 2004م فى سجن «بوكا» جنوبالعراق حتى أطلق سراحه بدعوى أنه لا يشكل خطورة. قيادات وعناصر «داعش» التقوا فى معسكرات اعتقال وسجون الاحتلال الأمريكى فى العراق آمنين فى الوقت الذى لم يكن يسيرا الالتقاء خارجها، وكان «أبوبكر البغدادي» الهادئ، الغامض، له هيبته فى السجن، يُستعان به فى حل مشكلات السجناء، وفى بعض الأحيان سُمح له بأن يقوم بزيارات إلى سجون أخرى لحل المشكلات، وتهدئة الأجواء. أفسحت تصفية أبو مصعب الزرقاوى فى 7 يونيو عام 2006م، الطريق أمام البغدادى فى أن يصبح رقما فى العمل المسلح فى العراق، بدعم من دمشق فى ذلك الحين، وتنسيق مع حزب البعث المنحل نتيجة تراجع السنة، والصعود الشيعي، الذى وجد دعما من السياسات الطائفية لرئيس وزراء العراق السابق نورى المالكي. «أبو بكر البغدادى» من مواليد عام 1971م، تولى الاتصال المباشر لفترة بزعيم القاعدة أسامة بن لادن. الصورة الباهتة التى التقطت له فى السابق فى سجن «بوكا»، تغيرت إلى صورة واضحة المعالم بعد أن صعد إلى منبر مسجد النورى فى الموصل فى 5 يوليو 2014م معلنا الدولة الإسلامية، بعد شهر تقريبا من سقوط الموصل ثانى أكبر المدن العراقية فى قبضة تنظيم «داعش». خطب فى المسجد فى شهر رمضان، وأعلن دولة الخلافة، وكأنها الباب الذى فتح على مصراعيه أمام أنصار «داعش» من كل أرجاء المعمورة، وبالأخص الدول الأوروبية، للذهاب إلى سورياوالعراق للمشاركة فى تأسيس الدولة الإسلامية. أما «الموصل» نفسها فقد انتهى بها الحال إلى مدينة معزولة، لا تواصل ولا اتصال بها، لا تعرف الكهرباء والمياه سوى ساعتين إلى أربع ساعات أسبوعيا، فضلا عما شهدته وتشهده من جرائم قتل وسبي. إذا قارن الباحث بين تنظيمى «القاعدة» و«داعش» سيجد بالتأكيد قواسم مشتركة بينهما، أبرزها الجهاد المسلح، النموذج الإسلامى المتطرف، العداء لغير المسلمين، والقتال ضد الحكومات، لكن فى المقابل هناك اختلافات بين التنظيمين. القاعدة تنظيم إرهابى يمارس نشاطه فى أماكن عديدة جغرافيا، ويعتمد على انتشار خلايا له تتمتع باستقلال نسبى فى الحركة، أما داعش فهو تنظيم يعمل على الأرض، أى يسيطر على قطعة من الأرض، يؤسس عليها حكمه، ويمتلك بيروقراطية عسكرية ومدنية، ويدير الإقليم بنظم يضعها، ويستعيد مفاهيم غابرة من العصور الوسطى تشكل شفرات يتواصل بها مع المجتمع، التكفير عنوانها الأساسى، ومن خلاله يمارس القتل بلا رحمه، وسبى النساء والأطفال، واستحلال الأموال والممتلكات. أسامة بن لادن لم يكن خليفة للمسلمين، ولم يتوقع أن تتأسس الخلافة فى عهده، لكن «أبو بكر البغدادي» يدعى النسب القريشي، ويرى أن شروط الخلافة متوافرة فيه، بما لم يتوافر فى خلفاء الدولة العثمانية، وينتظر أن تنهال عليه البيعة من كل التنظيمات المتطرفة المنتشرة جغرافيا. الممارسات البشعة من قتل وذبح وحرق وصلب وسبى جميعها هى وسائله فى التعامل مع الكفر، فهو الدولة الإسلامية التى يحيط بها الكفار، ولابد من ممارسة أبشع الوسائل لإنزال الرعب بالقلوب، وتحقيق الانتصار السريع دون مقاومة. لا تؤمن «داعش» بعهود أو معاهدات ترسم الحدود أمامها، وإذا اضطرت إليها فهى مؤقتة، إلى أن تستعيد قوتها، وقدرتها على غلبة الآخرين. الذبح البشع لواحد وعشرين مصريا على يد «داعش» فى ليبيا يمثل أكبر جريمة جماعية تقوم بها خارج مناطق نفوذها فى العراقوسوريا، قتل مسيحيين على شاطئ البحر المتوسط على بعد مائتى ميل من شواطئ جنوب أوروبا إشارة إلى بدء رحلة الدم تجاه «الغرب الصليبي». أوروبا والولاياتالمتحدة التى يشغلها امتداد التنظيم فى العراقوسوريا، لا تمتلك رؤية التعامل معه فى ليبيا- القريب منه جغرافيا التى وصلها فى شهر سبتمبر الماضي. إذا لم يصل الغرب إلى ليبيا، ستصل إليهم ليبيا لا محالة. وبالفعل وصل إليهم «داعش» فى خلايا العائدين عبر تركيا- الذين يتعرضون إلى مراقبة عقب عودتهم- وكذلك المتطرفون الذين يجرى تجنيدهم فى الفضاء الالكتروني، ويؤرق أوروبا العمليات الإرهابية الصغيرة التى توجعها من فرنسا إلى بلجيكا إلى الدنمارك. المسألة أكثر خطورة وحساسية. التنظيمات الإرهابية لم تعد خلايا منتشرة، أقصى ما حققه تنظيم القاعدة، لكنها حقائق موجودة على الأرض، تسيطر على أرض وبشر، وتفرض نظمها، وتتمدد خارج أماكن تركزها- بنفسها أو عبر وكلاء لها- مستفيدة من حالة الفوضى والارتباك فى العديد من الدول مما ينبئ بحزام من التطرف عالميا، له قاعدة جغرافية مستقرة. المواجهة ينبغى أن تكون «شاملة»، وليست انتقائية الهوى والمصالح. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى