لا تقل حادثة «شارلي أبدو» عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر من حيث تأثيرها الصادم للغرب. ورغم بشاعة الجرم فإنه قد يكون مناسبة لكي يقف الغرب وقفة صادقة مع النفس ويقيم سياساته تجاه الجماعات المتطرفة عامة ومنها جماعة الإخوان. فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي وعلي مدي ما يزيد علي ستة عقود تحالف الغرب مع الجماعات الاسلامية المتطرفة بزعم مواجهة الشيوعية، واستقبل الرئيس الأمريكي أيزنهاور وفد من جماعة الإخوان، وفتحت واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية خاصة لندن أبوابها واحتضنت قادة الإخوان وعناصرها الفارين من مصر وغيرها من دول الشرق الأوسط بعد ارتكابهم أعمال عنف وإرهاب. وقد تعزز هذا التحالف بين الغرب والجماعات المتطرفة عقب التدخل السوفيتي في أفغانستان حيث تعاون الإخوان مع المخابرات الأمريكية ودفعوا بالآلاف من اتباعهم للقتال في أفغانستان ومساندة واشنطن. ولم يقتصر الأمر علي التحالف مع التنظيمات القائمة بل امتد لتكوين تنظيمات جديدة لخدمة المصالح الغربيةوالأمريكية. وكما دعمت بريطانيا تأسيس جماعة الأخوان في العشرينات من القرن الماضي لتفتيت وحدة المجتمع المصري وضرب الحركة الوطنية المصرية المطالبة بالاستقلال، صنعت المخابرات المركزية الأمريكية وعمليتها المسماة ب «الإعصار» تنظيم القاعدة وبن لادن، بهدف مساعدة «المجاهدين» الأفغان ودعمهم بالمال والسلاح لتوجيه ضربات موجعة للسوفيت. وكانت واشنطن أيضاً وحليفتها باكستان وراء تشكيل حركة طالبان لضمان سلطة موالية للبلدين في كابول. ورغم تفكك الاتحاد السوفيتي وزوال الخطر الشيوعي مطلع التسعينيات، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي هزت الوجدان الأمريكي والأوروبي، فإن السياسات الغربية لم تتغير تجاه الحركات الاسلامية وظلت تدعمها سياسيا وماديا، وخلافا لدول أخري كثيرة رفضت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربي إدراج جماعة الأخوان ضمن قائمة المنظمات الارهابية لديهم، وسمحوا لهم بمزاولة نشاطهم علي أراضيهم حتي تغلغلوا وكونوا جماعات ضغط علي صانعي القرار في واشنطن وبروكسل، وأصبحوا مستشارين نافذين للرئيس أوباما وفي هيئات الاتحاد الأوروبي. بل وأوصلتهم الولاياتالمتحدة للسلطة في البوسنة والهرسك، أي في أوروبا ذاتها، ثم في تركيا، ودعمت وصولهم للسلطة في الدول العربية التي شهدت ثورات منذ العام 2011. من ناحية أخري، استغل الغرب حالة عدم الاستقرار التي تجتاح الدول العربية خاصة سوريا وحاول التخلص من المتطرفين الذين تزايد عددهم علي نحو ملحوظ في أوروبا وأصبحوا ظاهرة مثيرة للقلق، وذلك بتشجيعهم علي «الجهاد» في سوريا، وكان «راديو أوروبا الحرة» وأئمة المساجد في أنحاء أوروبا يحثون الشباب علي التوجه لمنطقة الشرق الأوسط وخاصة سوريا، فيما عُرف بعملية «تنظيف أوروبا» من المتطرفين ونقلهم طواعية إلي منطقتنا والاستقرار فيها بالتفاهم مع التنظيم الدولي للأخوان الذي وجدها فرصة للانقضاض علي السلطة في سوريا وليبيا وغيرها، وتكوين جيوش من المرتزقة تحت شعار «الجهاد». وقام الغرب وتركيا، الشريك الإقليمي الأساسي له، بدعم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، «داعش»، بالمال والسلاح والمعلومات والتدريب لآلاف المتطرفين الأوروبيين الذين انضموا إلي صفوفه بحجة الإطاحة ببشار الأسد. وكانت ثورة 30 يونيو والسقوط المدوي لحكم الإخوان بإرادة شعبية خالصة نقطة تحول مفصلية أدت إلي فشل المخططات الغربية ليس فقط في مصر ولكن في المنطقة بأسرها، حيث تزامن ذلك مع احكام متزايد من جانب النظام السوري علي مقاليد الأمور في سوريا، مما أدي إلي عودة كثير من المتطرفين الأوروبيين مرة أخري إلي أوربا وهم أكثر تدريباً علي مهارات القتال واستخدام السلاح وكل ما يستلزم القيام بأعمال إرهابية منظمة في العمق الأوروبي. فقد تلقي المتطرفين القادمين من دول أوروبية مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا تدريباً فيما يسمي «معسكرات الإرهاب» التي يديرها متشددون تابعون لتنظيم القاعدة في شمال سوريا قرب الحدود التركية. كما إن هؤلاء كانوا يرشدون زملاء لهم عن الأماكن التي يمكن استهدافها والأساليب التي تستخدمها الشرطة في إحباط أي هجمات داخل المدن. وقد مثلت حادثة «شارلي أبدو» انعكاساً واضحاً لذلك، ومازال هؤلاء منتشرون في المجتمع الفرنسي وغيره من المجتمعات الأوروبية ينتظرون فرصة سانحة للهجوم، وعلي سبيل المثال تم رصد العديد من التعليقات علي فيسبوك المؤيدة للارهاب في فرنسا عقب الحادثة ومنها شخص نشر علي صفحته صورة بندقية وذخائر علي الأرض، تحمل تعليقا بخط اليد يقول «قبلات حارة من سوريا، باي باي شارلي». لقد تحول الحلم الأوروبي بالتخلص من المتطرفين الإسلاميين إلي كابوس مرعب مع عودتهم ارهابيين محترفين إلي أوروبا. ولا تستطيع الدول الأوروبية منع هؤلاء من العودة إليها لأنهم مواطنين أوروبيين ومن هنا كانت المعضلة الأوروبية. فقضية العائدين من سوريا هاجس يؤرق الاستقرار الأوروبي، واعتبرتها وزيرة الداخلية البريطانية أكبر خطر إرهابي تواجهه بريطانيا منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 علي الولاياتالمتحدة، وأشارت إلي أن لندن احبطت عشرات العمليات الارهابية منها محاولات لتنفيذ هجمات بأسلحة نارية في شوارع بريطانيا، ومخطط لتفجير سوق الأوراق المالية بلندن، ومخططات لإسقاط طائرات ركاب وغيرها. ورغم الاجراءات الأمنية المشددة والصارمة التي تتخذها العواصم الأوروبية لمواجهة خطر الإرهاب والتي تتضمن الاعتقال، والمحاكمات الرادعة وترحيل الأشخاص الخطرين علي الأمن، وسحب الجنسية وإلغاء جوازات السفر، ومصادرة جوازات السفر وتذاكر الطيران، ومنع شركات التأمين من تغطية كلفة الفدي التي تدفع لإطلاق سراح المختطفين لأن ذلك يشجع الإرهابيين، وعلي رأسهم مسلحو «داعش» علي اختطاف المزيد من الرهائن من أجل تمويل نشاطاتهم، فإنها مازالت تحت خطر الارهاب الذي يهدد أمنها واستقرارها وحياة مواطنيها. إن السهم الذي أطلقه الغرب في اتجاه عالمنا العربي، ارتد ليصيب القلب الأوروبي في مقتل. ويظل السؤال حول متي يعي الغرب أن الأفاعي تلدغ مربيها وحاضنيها قبل أعدائها، وأن الأمن كل لا يتجزأ، ولا يمكن أن تكون أوروبا آمنة وجوارها العربي تعتصره جماعات ارهابية متطرفة لا دين لها ولا وطن؟؟. لمزيد من مقالات د.نورهان الشيخ