القوات المسلحة تنظم زيارة لعدد من الملحقين العسكريين إلى إحدى القواعد الجوية    مدير «تعليم دمياط» يتفقد مدارس السرو.. ويؤكد على أهمية توفير بيئة صحية    وزيرة التضامن تشارك في جلسة حول برنامج «نورة» والصحة الإنجابية للأمهات    ضمن مبادرة بداية.. مياه الغربية تواصل تقديم الأنشطة الخدمية    الحكومة: صرف 6 دفعات جديدة من «صندوق إعانات الطوارئ» للعاملين بالمنشآت الفندقية بطابا ودهب ونويبع    22 طن مساعدات مصرية للشعب اللبناني.. وعودة 298 مواطنا مصريًا لأرض الوطن    محافظ أسيوط: تكثيف الجهود لمواجهة الحرق المكشوف للمخلفات الزراعية    وزير الصحة: وصول عدد خدمات مبادرة «بداية» منذ انطلاقها ل62.7 مليون خدمة    محافظ بنى سويف يعقد اللقاء الأسبوعى بالمواطنين.. تعرف على التفاصيل    لتجنب سيناريو ماونتن فيو.. 3 خطوات لشركات التسويق العقارى لمكالمات الترويج    قرارات حكومية جديدة لمواجهة المتاجرة بالأراضي الصناعية (تفاصيل)    الضرائب: استجابة سريعة لتذليل عقبات مؤسسات المجتمع المدني    رئيس الوزراء: الدولة نجحت في تخفيض معدلات البطالة رغم التحديات    الرئيس الإيراني: "بريكس" فرصة لدول العالم لعدم ربط مصيرها بمصير الغرب    هاريس وترامب .. صراع البيت الأبيض في الأيام السوداء    الصحة العالمية: نقل 14 مريضًا من شمال غزة خلال بعثة محفوفة بالمخاطر    لايبزيج ضد ليفربول.. 5 لاعبين يغيبون عن الريدز في دوري أبطال أوروبا    وزير الدفاع الأمريكي: هناك أدلة على أن كوريا الشمالية أرسلت قوات إلى روسيا    ريال مدريد يعلن إصابة كورتوا قبل مواجهة برشلونة    إحالة مزارع إلى المفتي لقتله شخصا بسبب مبلغ مالي في سوهاج    الأرصاد الجوية: الطقس معتدل ليلًا والقاهرة تسجل 28 درجة    مصرع مسن في حادث سير بطريق مطار الغردقة    العثور على جثة رضيع مجهول الهوية بجوار مستودع بوتاجاز في الشرقية    مصرع شخص وإصابة 5 آخرين فى حادث انقلاب تروسيكل داخل مصرف ببنى سويف    مصدر ب«الأعلى للآثار»: قبة «مستولدة محمد علي باشا» ليست ضمن الآثار | خاص    برغم القانون.. الحلقة 29 تكشف سر والدة ياسر والسبب في اختفائها    ذكرى ميلاد صلاح السعدني.. محطات في حياة «عمدة الدراما»    أوركسترا القاهرة السيمفوني يقدم حفلا بقيادة أحمد الصعيدى السبت المقبل    الثلاثاء.. مؤتمر صحفي لإعلان تفاصيل الدورة التاسعة لمهرجان شرم الشيخ للمسرح الشبابي    منها برج العقرب والحوت والسرطان.. الأبراج الأكثر حظًا في شهر نوفمبر 2024    «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».. موضوع خطبة الجمعة القادمة    محافظ المنيا: تقديم خدمات طبية ل 1168 مواطناً خلال قافلة بسمالوط    وزير الصحة يشهد توقيع اتفاقية لدعم مرضى سرطان البروستاتا    إيهاب الكومي: أبوريدة مرشح بقوة لتولي رئاسة الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    "ساعة فاخرة وهاتف".. سرقة أحد مسؤولي بايرن في برشلونة    "فولفو" للسيارات تخفض توقعاتها لمبيعات التجزئة لعام 2024    رئيس الوزراء لأعضاء منظومة الشكاوى الحكومية: أنتم "جنود مخلصون".. وعليكم حُسن التعامل مع المواطنين    طارق السيد: فتوح أصبح أكثر التزامًا واستفاد من الدرس القاسي.. وبنتايك في تطور واضح مع الزمالك    مسؤول أمريكي: بلينكن سيلتقي وزراء خارجية دول عربية في لندن الجمعة لبحث الوضع في غزة ولبنان    التعليم تعلن تفاصيل امتحان العلوم لشهر أكتوبر.. 11 سؤالًا في 50 دقيقة    التحقيق مع تشكيل عصابي في سرقة الهواتف المحمولة في أبو النمرس    الصحة الفلسطينية تعلن ارتفاع عدد ضحايا العدوان على قطاع غزة إلى 42792 شهيدًا    لأول مرة.. هاني عادل يفتح قلبه لبرنامج واحد من الناس على قناة الحياة    أطلق النار على زوجته ليتهم ابنه.. كيف كشفت الشرطة حيلة مزارع سوهاج؟    لماذا العمل والعبادة طالما أن دخول الجنة برحمة الله؟.. هكذا رد أمين الفتوى    منها انشقاق القمر.. على جمعة يرصد 3 شواهد من محبة الكائنات لسيدنا النبي    «الإفتاء» توضح حكم الكلام أثناء الوضوء.. هل يبطله أم لا؟    من توجيهات لغة الكتابة.. الجملة الاعتراضية    «إعلام بني سويف الأهلية» تحصد المركز الثالث في مسابقة العهد للفئة التليفزيونية.. صور    "إيمري": لا توجد لدي مشكلة في رد فعل جون دوران    نجاح عملية جراحية لاستئصال خراج بالمخ في مستشفى بلطيم التخصصي    تلبية احتياجات المواطنين    غدا.. "تمريض بني سويف" تحتفل باليوم العالمي لشلل الأطفال    افتتاح فعاليات المؤتمر السنوي الثالث للدراسات العليا للعلوم الإنسانية بجامعة بنها    موعد إعلان حكام مباراة الأهلي والزمالك في السوبر المصري.. إبراهيم نور الدين يكشف    «ماذا تفعل لو أخوك خد مكانك؟».. رد مفاجيء من الحضري على سؤال ميدو    الخطوط الجوية التركية تلغى جميع رحلاتها من وإلى إيران    مدرب أرسنال يصدم جماهيره قبل مواجهة ليفربول بسبب كالافيوري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تذكار عاطفى تحت شجرة البراءة
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 01 - 2015

أهلا يا أنا العشق تجربتي وكل زادي، جحيمي وجنتي، أرضي وسمائي، جنوني المرتدي قناع العقل، جوهري المتحدي لكل شكل.
العشق سؤالي الذي لا يرضى أبداً بإجابة واحدة، لذلك أندفع كعاصفة من شوق إلى أحضان من أحب، لنتحول إلى موجتين: موجة تلين وأخرى تتداخل معها لنذيب ثلوج الإحساس بالوحدة، ونمتلك سكينة التكامل في قوقعة هاربة إلى أنهار الجنة.
.............
على سطح المركب سوريا ، وقفت منتصرا على أكثر من شتاء ، الشتاء الأول هو ضرورة إنهاء غربتي عن الحبيبة التي سافرت للدراسة إلى باريس ، وصارت المسافة بيننا هي أسنان من شوك وغيظ ، شوك إحساسي بأني وحيد ، وغيظ لأني لا أملك فرصة رؤية صورتي في عينيها . كانت تعرف كما أعرف أنا أنها سبب واحد أعيش من أجله ، كتبت لي فور وصولها إلى باريس « من المدينة التي تحبها أحبك .. إياك أن تخون ،فأنا أقطنك ولن أسمح لك بالخيانة « . ولعلي الوحيد الذي لم أندهش حين نطقت ليوسف السباعي العضو الكاتب والعضو المنتدب لروز اليوسف « أنت تنظر إلى العلم كرمز للوطن . وأنا أراها مغزولة في العلم ، وتطل عيناها لأهمس لها : أنت وطني «.
كنت أعي تماما أن أيام حياتي قبل ميلادها في قلبي إلى سراب ، ولهث وعطش مجنون إلى معنى أن أكون « أنا « ، ف» أنا» لم تكن تساوي في واقعي سوى الذوبان فيها . وصار الواقع المؤكد أن قلبي يختنق بأصابع من جفاف أيامي، بعد أن غادرت القاهرة للدراسة، لذلك لم يكن هناك مفر من تخطي جيال التفاصيل من أجل السفر إلى باريس . ولم يكن السفر خارج مصر في ديسمبر 1963 سهلا ، حيث يتطلب الأمر استئذان جمال عبد الناصر أو من يوكل إليه هو السماح لصحفي أن يسافر . ولن أنسى كيف قرأ الشاعر كامل الشناوي ذلك في خطواتي المتكسرة الحائرة إلى كافتيريا « نايت أند دأي « بفندق سمير أميس، و لا أدري كيف عكست ملامحي في عيون الشاعر خريطة أعماقي ؛ فسألني عما أعانيه ، فاعترفت بعجزي عن الحصول على إذن السفر ، حيث رويت له كيف استقبلني سكرتير وزير الإرشاد وكان يخطو بقبقاب من أجل الوضوء ، وقال لي سكرتير الوزير « ابحث عن واسطة كي تحصل على إذن السفر» . لاداعي لرواية كيف اندفعت في وجه السكرتير غضبا ، طالبا منه أن يجلس معوجا بشرط أن يتكلم معدولا ، فقال « أنت شاب صغير ، لذلك لن أبلغ رؤساءك عنك « . وفي صباح اليوم التالي كان صوت هذا السكرتير يحدثني تليفونيا ويذكر اسمي مسبوقا برتبة الباكوية ، ويهنئني بالحصول على إذن السفر بعد مكالمة من الشاعر كامل الشناوي لوزير الإرشاد .
أحسست لحظتها أن قلبي عاد يمتلك حق التنفس العميق في أحضان فكرة الحب وأني _ ككل عاشق _ أبحت لنفسي السفر دائما إلى عيون من أحب، وفي أحيان أخرى أفتش تحت بشرة أي امرأة عن صلة ما بمن أحب. وشاءت الظروف ألاّ أتنفس بعمق إلا بالسفر، إما إلى من أحب، أو إلى أي امرأة تلعب دور الظل لمن أحببت، أو إلى بلد أبحث فيه عن عناق الحب؛ فجواز سفري لا يدخل أي مدينة إلا من أجل الحب.
.............
وعلى امتداد أيام العمر عرفت السفر على أمواج البحر الأحمر ونهر النيل ومواني البحر الأبيض، ثم سبحت في أجواء المحيط الأطلنطي إلى الولايات المتحدة وكندا. وتقلبت أيامي لأخطو فوق المحيط الهندي لأصل إلى اليابان ، ثم أخطو فوق البحر الأحمر إلى السعودية ، و الكويت وأبو ظبي ، ثم استرحت لسنوات إلى زيارة إيطاليا بعد أن زرت أغلب محافظات مصر. وقد حدث ذلك كله من أجل الحب ، فكرة وشوقا وتحقيقا لمعنى أني أعيش .
.............
كان السفر إلى الحب عبر المركب في عام 1963. اخترقت البحر المتوسط على سطح الباخرة سوريا؛ لتحملني من الإسكندرية إلى ميناء برييه في اليونان، ثم إلى فينسيا بإيطاليا، لأركب القطار الليلي لأصل إلى باريس في الصباح . ولم ألتفت وأنا في البحر لعناق السماء مع الموج، ولا لتدافع الموج على ضفتي السفينة، ولا إلى العاصفة التي قلبت معدتي حين دخلت المركب وسط دوامات جعلتها تتأرجح ذات اليمين وذات اليسار، ولا إلى لحظة مرور السفينة في مضيق «كورنيثيا» الشديد الضيق الذي يفصل بين جبلين. وكان القبطان «أنيس أنسي «هو الذي يوجه السفينة، أما المرشد اليوناني الذي كان يجب أن يقوم بالمهمة فقد وقف يشرب كأس نبيذ بجانب القبطان، متكلما بصوت عالٍ: أنت تفهم هذا الممر المائي أكثر مني.
كان أنيس أنسي رجل يعشق البحر بجنون ويحتاج إلى الأرض بجنون أيضا، يحفظ خريطة البحر المتوسط وكأنه يسير في شوارع مدينة يحفظ ملامحها. وفي المساء يمكنك أن ترى غلالة من دموع الأشواق تبرق في عينيه، حلما بقضاء وقت من السمر مع أسرته التي تعيش في الإسكندرية..
و كان من الطبيعي أن تُخْرِج لي ذاكرتي من أيامي القديمة وأنا على سطح الباخرة سوريا ما حدث في مركب نيلي صغير أوقفته أنا وحبيبتي ، في أول زيارة لنا للقناطر الخيرية.
وكان وقوف الذاكرة عند تجربة المركب النيلي في القناطر الخيرية، هو وسيلة لتثبيت الروح في الجسد وسط دوامات تأرجح المركب سوريا بين عواصف البحر الأبيض.
أذكر اليوم جيدا. كان الخميس الموافق التاسع والعشرين من ديسمبر من عام 1960. كانت حبيبتي قد جاءت من الإسكندرية إلى القاهرة لتؤدي امتحان بعثة دراسة الماجستير، والتي قيل لها إنها مقدمة لسفرها للدراسة المنتظمة في كلية الآداب في باريس.
ولا أعرف من الذي أوحي لنا أن ننطلق من أسر القاهرة، ونركب أتوبيسا إلى القناطر الخيرية، ولا يعرف أحدنا كيف أشرنا معا إلى المراكبي العجوز الذي طلب منا ثلاثة جنيهات، ليجعل من المركب بيتا صغيرا لنا. ولا أدري كيف استطاعت شمس ذلك النهار وسط النيل أن تكون خيوط من حنان شتوي. ولا أدري كيف بدأ الحب يعزف لحنه السماوي، فامتزجنا لنكون كائنا واحدا.
كان الغرق في استدعاء تفاصيل قارب للحب هو الذي جعل من رحلتي على الباخرة سوريا مقبولة رغم الإنهاك الشديد.
وما إن وصلنا إلى ميناء بيريه؛ حتى قال القبطان أنيس أنسي:» لا أجد مكانا للمركب على رصيف الميناء. من يرغب في زيارة ميناء بيريه أو أثينا، عليه أن ينزل على سلم الحبال، ليركب قاربا إلى رصيف الميناء. وحين عودتكم سيكون المركب قد رسا على الرصيف». لقد سمحت لكم سلطات الميناء بالدخول إلى اليونان بدون تأشيرة، لأن المركب مصرية، والعلاقات بين مصر واليونان متميزة». وضحك ضحكة لها طابع السخرية:» لا تنسوا أن اليونانيين يرغبون أيضا في أن ينزل إلى بلدهم الكثير من السياح، لتصنعوا رواجا ولو بسيطا بما تشترونه من سلع، وهم لا يعلمون أن السائح الخارج من مصر لا يحمل في جيبه أكثر من خمسة جنيهات إسترلينية «. ولم يكن أنيس أنسي يعلم أني قمت بتحويل مائتي جنيه إسترليني كبدل سفر لمدة شهر خارج الحدود .
وكان نزولي إلى قارب صغير من المركب « سوريا « في بيئريه سببا في أن تسافر الذاكرة إلى باخرة أخرى ركبتها مع أهلي في عام 1947، لنصل إلى جدة من أجل أداء فريضة الحج.
هاهي التذكارات تتوالى لأجد نفسي معلقا بها. مازلت أذكر كيف عشت تجربة الحج في الطفولة بكل ما فيها من توتر وصخب وشقاوة طفل يتعجب من حدوث كل ذلك الذي مر بي. وبقي في خيالي أني رأيت نفسي معلقا في ريشة حمامة تطوف بالكعبة، وسط زحام الحجيج اللاهث. وليس من الصعب على طفل في الثامنة أن يرى بعيون الخيال موكب الأنبياء وهو يحيط بي. هاهو إبراهيم _ خليل الرحمن _ يصافح مريم البتول، ويهمس موسى الشكوى من بني إسرائيل ، وأسمع كلمات الحق التي تصلى على محمد صلى الله عليه وسلم.
وراء السفر إلى الحج لأول مرة عام1947 حكاية واضحة تماما بتفاصيلها في رأسي . كنت طفلا أدرس في» روضة أبناء الأشراف» التي أسستها نبوية موسى رائدة التعليم في ذلك الزمن القديم. وكان بيني وبين السيدة أو الآنسة نبوية موسى معركة صامتة يومية. وأظن أنها كانت آنسة؛ لأني لا أثق أن رجلا كان يمكن أن يتزوجها ؛ لأنها تشبه الممثل توفيق الدقن ، وفي نفس طوله ونفس طريقة نطقه للكلام . ولهذه المرأة فضل كبير في مجال التعليم . وكانت تلعب مع الوفد لعبة الكراهية . وترى أن النحاس باشا قد أخطأ خطأ جسيما بزواجه من زينب هانم الوكيل. وترى أنه لا يستقيم أن يتزوج رجل فوق الخمسين من فتاة تحت العشرين.
أما سبب المعركة اليومية بيني وبين الآنسة نبوية موسى فهو تمردي على الزي الذي صممته هي لتلاميذ مدرستها ؛ مريلة المدرسة السوداء، وتحيط بالرقبة كولة بيضاء، يتم تثبيتها بكبسونات لا تصدأ. وكنت أعتبر «الكولة البيضاء « رمزا أنثويا، وبما أنني مشروع رجل فلا يجب أن أرتديها. لذلك كنت أقوم بخلعها، ووضعها في جيبي. وكانت الآنسة نبوية موسى تقف على باب المدرسة كل يوم لترقب طريقة ارتداء كل منا لملابسه ومدي حرصه على نظافته. وكانت تسألني عن الكولة، فأخرجها من جيبي، فتساعدني في ارتدائها، وتوصيني أن أفعل ذلك وحدي.
وكان المشهد يتكرر يوميا؛ ما إن أراها حتى أخرج الكولة من جيبي، وأمد يدي بها إليها، فتساعدني على ارتدائها. وتقبلت الآنسة نبوية موسى تمردي هذا بمحبة تبرق تحت عدسات نظراتها السميكة. وكانت تناولني وأنا الطفل الصغير مجلة روزاليوسف التي تقوم بتوزيعها على طلبة وتلاميذ المدرسة إجباريا، لأنها المجلة التي تفضح حزب الوفد لا لحساب حزب آخر، ولكن لحساب الشارع العادي. كانت نبوية موسى تغار فيما يبدو من زواج النحاس باشا من الجميلة زينب هانم الوكيل؛ ولعلها كانت تتمناه زوجا لها. وكنت آخذ منها مجلة روز اليوسف وأدفع القرشين صاغ ثمن المجلة وأحتفظ بها لوالدي الذي يمنحني كل يوم اثنين ثمنها. ولكن نبوية موسى لم تقبل مني ما شاهدته بأم عينيها أثناء الفسحة الكبيرة التي نأخذها من الحصص في الواحدة ظهرا. فقد كانت تتجول في ردهات المدرسة وبين الفصول، لعلها تجد تلميذا لم ينزل إلى المطعم لتناول الغداء الكريه المكون في معظم الأيام من طبق « الفول المقلي « وطبق الأرز المعجن. ورأت نبوية موسى ما لم تتوقعه. شاهدت طفلا وطفلة يلعبان لعبة الطبيب والمريض. كنت أنا هذا الطفل، وكانت « سوزي « ابنة طبيب الأسرة هي الطفلة. وأضافت سوزي إلى اللعبة بعضا من مشاهد شاشة السينما من أفلام رعاة البقر الأمريكية «الكاوبوي»؛ حيث يقبل البطل البطلة. وهنا صرخت نبوية موسى. وأصرت على تصحبنا إلى غرفتها؛ وأن تتحدث مع والدينا تليفونيا لتصدر قرار فصلنا من مدرستها؛ بسبب أول قبلة بريئة بين طفل في السادسة وطفلة في نفس العمر.
ولم يفعل والدي أي شيء سوى أن أشاح بوجهه عني. وكان هذا عقابا لو تعلمون عظيم. وكنت أتوقع علقة ساخنة ، كالتي يضربها جارنا عضو الاخوان المسلمين لأبنائه ، كانت عادة والدي معي أن يهدد ولا يفعل،ولم أصدق أنه أخفى عني عقابا آخر ، وهو أن يخرجني من مدرسة نبوية موسى، ليلحقني الصباح التالي بمدرسة النهضة النوبية. وهي مدرسة كنت أراها من الخارج حيث تقع في آخر شارع محسن باشا، حيث بنى أبي جامعا ومستوصفا، ويزدحم عليها كل صباح أبناء الفقراء. و قد أسس هذه المدرسة العاملون بالإسكندرية من أبناء النوبة كي يتحدوا قرار صدقي باشا أحد رؤساء الوزارة في مصر بحرمانهم من التعليم العام.
وحين دخلت بصحبة أبي من باب تلك المدرسة فكرت بسرعة في كيفية الهرب منها. فلم أكن فقيرا في ملبسي مثلهم؛ فضلا عن أني لم أكن ثريا كبعض زميلاتي وزملائي بمدرسة نبوية موسى ، كنت أعرف من البداية أني من أبناء منطقة الوسط ، كما أن مدرسة النهضة النوبية لا يوجد فيها بنات كمدرسة نبوية موسى ، فقد أحببت مدرسة نبوية موسى لما فيها من بنات الثانوي الجميلات ، اللاتي يحترفن معاكستي والهزار معي .وجاء الحل الفوري _ لا شعوريا _ للهرب من مدرسة النهضة النوبية لحظة أن بدأ امتحان القبول لي. فحين طلب المدرس مني كتابة اسمي على السبورة ؛ عمل الخبث الطفولي عمله ، فكتبت اسمي من الشمال إلى اليمين ؛ ويحتاج ممن يرغب في قراءته أن يضع مرآة أمام السبورة ليقرأه صحيحا. وحين سألني المدرس في جدول الضرب؛ قلت له أن إثنين في إثنين يساوي ستين، فسألني: كيف ؟: أجبت لأن أي أثنين من الأخوة يتزوجان بأي أختين سينجبان بعد سنوات أبناء وبنينا و أحفادا قد يصل عددهم إلى ستين أو أكثر. كان الرعب يستبد بي من أن أعيش النهار في هذه المدرسة؛ وألا ألتقي بأصدقائي وزميلاتي في روضة الأطفال فضلا عن مداعبة ومشاغبة بنات القسم الثانوي. ورأيت الغيظ وعدم الفهم على ملامح أبي، وهو يتلقى قرار المدرسة بعدم قبولي. وفور خروجنا من المدرسة بدأ أبي في تهديدي . فقلت له: أين هو الله لأقابله شخصيا فأشكو له حالي ؟. وكان سؤالي هذا هو طوق النجاه الدائم الذي ألقيه في بحر غضب أبي ، فحاول أن يكتم ضحكه من سؤالي، كان يعلم أن سؤالي عن مكان الله هو بداية لتقديم شكوى منه شخصيا، فقد سبق أن سألته هذا السؤال كثيرا، وكانت إجابته الدائمة هي تساؤل عما أريد أن أشكو منه، وكرر القول المعتاد: إن الله موجود في كل الوجود وتستطيع أن تلتقي به حين تصلى. ولكن ماذا ستشكو له هذه المرة ؟. قلت له: سأشكو له نبوية موسى. فقال لي والدي: حتى يقبل الله شكواك لابد أن تحفظ بعضا من سور القرآن الكريم.
وصحبني إلى مدرسة تحفيظ القرآن الكريم واسمها « مدرسة الفتح المبين «، و تقع في شارع الكنانة الموازي لشارعنا. وعلى ناصيتها قسم الشرطة الذي أخافه تماما. وكانت المدرسة ذات طابق واحد وفيها شيخ مفتوح العينين، لكنه لا يرى، اسمه الشيخ الميهي. وبدأ الشيخ في تحفيظي بعضا من سور القرآن الكريم. ومضت أيام وأنا مندهش من المدرسة الجديدة، فالتلاميذ بها يأتون من منازلهم بالبيجاما أو الجلباب، وكنت الوحيد الذي يرتدي البنطلون والقميص. وكنت متميزا عنهم في علم الحساب، وهم يتفوقون جميعا عليّ في حفظ القرآن الكريم . وكنت أجد صعوبة بالغة في الحفظ، وكنت أسمع حكايات أبي عمن يرتلون القرآن أمثال الشيخ عبد العظيم زاهر والشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل، وكيف أنهم قد ضمنوا لأنفسهم سعادة الدنيا برغد العيش، وضمنوا سعادة الآخرة لأن لهم بابا مخصوصا من أبواب الجنة سيدخلون منه. وأبديت تجاوبا في حفظ الآيات التي أفهمها، واستعصى عليّ حفظ الآيات التي لا أفهمها. ولم تستمر الأيام السعيدة أكثر من أسبوع، والذي قطع تسلسل السعادة هو قول الشيخ لي أثناء عجزي عن حفظ بعض الآيات التي لم أفهمها:» أنت حمار».
وطلب مني أن أمد يدي لأتلقى لسعات الخرزانة على كفي. وارتبكت بين الخوف والغيظ ، وما إن رفع الخرزانة ولمست يدي حتى تألمت. وبدون أدنى تردد أغرقته في السباب بصوت عال. وبرد فعل غير محسوب ، رأيت نفسي صاعدا على التختة التي أجلس عليها ؛ لأقفز من شباك الفصل إلى الشارع. وقد حدث كل ذلك، وكأن إنسانا غيري هو الذي تصرف لا أنا. وعدت إلى المنزل بالجريمة الجديدة ،التي أعلنتها لأمي، وأضفت لذلك رغبتي في ألا أعيش معهم في نفس البيت، لأنهم لا يحبونني.
وحين عاد أبي أعلنت له أمي كل شيء، وطلبت منه أن أصحبهما في رحلة الحج التي سيقومان بها لعل الله يهديني. ولم يعلن أبي رأيه في أمر صحبتي إلى الحج، بل ترك المسألة معلقة.
.............
ولحظة الرحيل من الإسكندرية حيث نقيم إلى بيت جدتي لأمي في شبرا ليسافر أبي وأمي إلى الحج ، قالت أمي لأبي :» هل سيسافر هذا الولد معنا ؟ «. ولم يعلن أبي الموافقة أو الرفض. وكان هذا الموقف المعلق يعني أني إن بقيت دون سفر ، فلسوف أقضي أيام سفرهما في بيت جدتي لأمي ولم يكن بيننا أقل درجات القبول ، فهي تراتي إبن « فلاحين « ولست مهذبا مثل أخوتي الذين ينطبق عليهم رأيها في أنهم يتصرفون بأدب الأتراك . ولأنها تعاملني بعصبية كنت أضحك منها ، فتزداد هياجا وسبابا بحكم إنسيابها من سلالة تركية .
وفي محاولة من أبي بإقناعي بعدم السفر معه إلى الحج ، صحبني إلى محل صيدناوي بالعتبة، ليختار لي ما أتمناه وهو دراجة أطفال بثلاثة عجلات . وأعجبتني الدراجة تماما. وبدا ذلك كأني موافق على عدم السفر ، و أني سأجلس مع جدتي أثناء وجود سفر والديّ إلى الحج .
واستمر لعبي بالدراجة طوال فترة العصر. وحين جاء آذان المغرب ، بدأت أمي تعد حقائب الرحيل إلى ميناء السويس، لتلحق هي وأختي وأبي بالباخرة «مكة «. وهنا بدأ بكائي بلا حدود. فأمر أبي أن توضع ملابسي في حقيبة خاصة بي وأعلن _ بغضب _ أنه سيأخذني مع أمي وشقيقتي الصغرى في رحلة الحج .
وهكذا فوجئت بأنه قد سبق واستخرج لي تذكرة و جواز السفر.
ولم ينس والدي قبل أن تتحرك السيارة إلى السويس أن يوصي أحد الأقرباء بأن يعيد الدراجة لمحل صيدناوي ويستعيد ثمنها.
.............
وبدأ السفر إلى السويس، وتوغلنا في الليل ، لنصل إلى الباخرة « مكة « التي سرعان ما بدأت في مغادرة الميناء. وكنت أتعجب مما تحمله الباخرة، فهي تحمل شحنة مكونة من عربة مطافئ صغيرة ستستخدم في غسيل الكعبة؛ و صندوق كبير في حجم حجرة من أي منزل ، سألت عما فيه ، فقيل « إنها هدايا مصرية لبعض العائلات هناك. وكانت المركب غاية في الحرارة . وكان علينا أنا وشقيقتي ووالدتي أن نسكن في نفس الغرفة الصغيرة التي تقيم بها زوجة رئيس بعثة الحج . واستقبلتنا بدرجة من التكبر المنزعج والمزعج، وخرج من فمها رذاذ كلمات سخيفة عن شقاوتي الظاهرة لعينيها . فلم أرتح لها . ثم حدث هذا الحادث الصعب ، وهو تبولي اللا إرادي أثناء النوم على أم رأسها أثناء نومها .فقد أصررت على أن أنام أنا في سرير بعلو سريرها بالغرفة الضيقة المخصصة لنا بالمركب ، حيث يوجد بالغرفة أربعة من الأسّرة ، اثنان على كل جانب في الغرفة ، وبطبيعة الحال يوجد سرير يعلو السرير الآخر . وحين قالت السيدة أنها تخشى أن يتبول عليها الطفل الذي هو أنا ، لم أكن أعلم أن الوجود في مركب غير مستقر سيحقق لها ما تخاف منه وما تمنيته أنا . وصحوت على صراخها مما حدث لها ،ورأيت الخجل في عيني أمي التي بكت بعنف . وصمتت السيدة حين رأت دموع أمي . وأذكر أني نمت نوما مفزعا في تلك الليلة . ورأيت أبي في الصباح وهو يقدم الاعتذار لرئيس البعثة وزوجته . ولاحظت نظرات الريبة مني وهي تملأ وجه رئيس البعثة وزوجته .
ولم تكن الرحلة بالمركب سهلة ؛ فجوها حار بما يفوق الوصف ، وفجأة أعلن قبطان المركب عن وفاة أحد الحجاج . وقرر القبطان أن يلقي جثته في البحر ، حيث لم تكن توجد ثلاجات للجثث بالمركب . وكان المشهد غاية في الصعوبة ، حيث اصطف بعض من الركاب ليروا واحدا منهم ، وهو يسقط طعاما للسمك . وأذكر أن قلت لرئيس البعثة « هذا مصير من لا يحب الأطفال . لقد كان الرجل الذي مات كثير الشخط في وجهي حين كنت أمر من أمامه «. كنت أعلم أني مشاكس وأردت بكلماتي تهديد رئيس البعثة المتكبر بأن السماء تنتقم لي ممن يشخطون في وجهي . وشكا الرجل لأبي مما أقول له . فزجرني أبي قائلا إنه لا يجب أن أحدث رئيسه بتلك الطريقة .
هكذا كانت رحلتي في تلك المركب وأنا في طريقي لأول توبة .
وحين وصلنا إلى جدة كان من الصعب أن ننزل مباشرة على رصيف الميناء ، بل كان علينا أن ننزل على سلم من حبال ضيق للغاية إلى قارب ، ثم يحملنا القارب إلى رصيف الميناء .
وجلست في القارب خائفا للغاية من مشهد المياه الأسود ، وليل جدة عام 1947 كان بلا أنوار ، مجرد مصابيح صغيرة باهتة الضوء تعمل بالكيروسين .
ومن القارب خرجنا إلى أتوبيس قديم لينقلنا مباشرة إلى المدينة المنورة في رحلة صعبة ، رأيت فيها وجه أبي وهو يمتلئ بخشوع غريب ،ويحدث رسول الله بصوت مسموع . سألت أبي : « لماذا تحدث النبي وهو ليس أمامك ؟ أجابني بأن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع كل من يحدثه .
وسار الأتوبيس القديم بين جبال وطرق وعرة لساعات طوال ، ثم ظهرت ملامح المدينة المنورة . وعلا صوت الركاب بالتهليل « طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع «
ونزلنا إلى التكية المصرية بالمدينة المنورة ، وهي مبنى ضخم به حجرات كثيرة وفناء متسع ، ويفصل بين مبنى التكية المصرية والمسجد النبوي شارع واحد.
ولا أدري من أين تأتي السكينة للنفس حين يدخل الإنسان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . ومازلت أذكر حالة الطمأنينة الجارفة التي تملأ النفس وأنا أدخل بصحبة أبي إلى مسجد قباء ، وهو أول مسجد صلى به الرسول صلى الله عليه وسلم ، لحظة دخوله إلى المدينة بعد أن هاجر من مكة .
ولا أنسي العاطفة المتدفقة التي تحتضن من يزور المدينة المنورة ، ومساحة السماحة التي تستقبلك بها عيون أهلها . كما كان هناك نوع من الخبز جميل الطعم ، يصنعونه بطريقة ما زلت أذكرها ، حيث يتم خلط الدقيق بالماء ولا يتركونه ليختمر ، بل يضعونه على سطح ساخن لفرن يدوي يعمل بالخشب المحترق .
وتمر ثلاثة أسابيع نألف فيها الحياة في المدينة المنورة ، ونفاجأ بأننا نركب نفس الأتوبيس الضخم والقديم ، بعد أن يرتدي الجميع ملابس الإحرام من أجل السفر إلى مكة في طريق طويل بين جبال وتلال و تعب . و ينشد الركاب « لبيك الله لبيك . لبيك لا شريك لك لبيك . إن الحمد والنعمة لك والملك . لا شريك لك» .
وحين دخلت المسجد الحرام لأول مرة ، قال أبي : هذا بيت الله الذي بنته الملائكة استعدادا لاستقبال الإنسان على الأرض . وغمرتني لحظات من سكون شديد وأنا أمسك بيد أبي ، الذي صارع لنصل إلى الحجر الأسود ، وكان يحمل شقيقتي الصغرى على كتفه . وما إن اقتربت من الحجر الأسود. أتذكر كيف تقدمت أمي لتقبلني أمام الحجر الأسود وهي ترجو لي الهدوء وعدم الشقاوة وحسن التعامل مع أقاربها الأتراك . قفزت من قبلتها في رأسي صورة يد شقيقها الذي يدعي انتماءه للأتراك ، وحين كان يصافح الطفل منا فهو يقدم يده ليقبلها الطفل . ولحظة أن فعل ذلك معي لم أقبل يده . وكان هذا يعني حرماني من عدة جنيهات ، سيأخذها كل من يقبل اليد . وقد أخذها أخوتي جميعا إلا أنا . أصررت _ في مقابل ذلك _ أن أرفع يد خال أبي الفلاح لأقبلها أمام هذا القريب التركي . وكان خال أبي لا يملك أن يمنح أحدا ولو عشرة قروش . وهكذا نقلت إلى الخال مدعي الانتماء إلى الأتراك حالة الغيظ ملأتني ، حين رأيت أخوتي ينعمون بثمن تقبيل اليد . ورأيت وجه القريب التركي منتفخا بالغيظ . وكنت أتمادى ، فأعاير أقارب أمي بأنهم ليسوا سوى أحفاد تاجر الدخان محمد علي باشا الذي جاء إلى مصر وهو مجرد عسكري ألباني، وهو من سرق الشوك والملاعق والسكاكين من بيت قنصل فرنسا ، جد ديليسبس . وكانوا يؤكدون لي أني أقول كل ذلك لمجرد أني ابن فلاح ، وكانوا في عيوني أبناء كذب كبير .
مازالت الذاكرة تحتوي على مشهد مزاحمة أمي لمن يطوفون حول الكعبة ، لتقبلني وأنا واقف أمام الحجر الأسود ، وتبكي وهي تدعو الله أن ينسيني شقاوتي التي تتطابق مع ما يسميه الكبار « قلة أدب «.
وقال لي أبي : هنا يستجيب الله لكل دعائك ، فدعوت بصوت مسموع أن أتعلم في كلية سان مارك الموجودة على كورنيش الإسكندرية ؛ التي سبق و حكى أبي لي عنها بأن من يتخرج فيها يتقن الإنجليزية والفرنسية ، ويلتحق بأي جامعة في العالم . وكنت أتمنى أن ألتحق بأي جامعة فرنسية ، لأني أكره إنجلترا تماما ؛ وأتمنى أن تهزمها فرنسا . فمازلت أذكر يوم 21 مارس 1946 حين بدأ الإنجليز في حرق الإسكندرية التي نعيش فيها ، وغمرت المظاهرات الشوارع كلها . وكنت أسير مع أمي في الشارع ، وكنت أصحبها لطبيب الأسنان الدكتور حسن فتحي بحي العطارين . كنت لا أحب رائحة عيادة الأسنان ، ولكن وجه الطبيب الطيب كان يحمل لي بعضا من الاطمئنان . وبعد أن خرجنا من هناك رأيت المظاهرات . وأرعبني صوت الرصاص المنطلق من بنادق الإنجليز . لكن الذاكرة حملت أيضا صورة بائعة الياناصيب في أحضان بائع الجرائد في بئر سلم عمارة إختبأت مع أمي داخلها هربا من الرصاص الإنجليزي ،ورأيت عمارة رئيسية في الإسكندرية تشتعل باللهب . وكادت السينما المقابلة لها أن تشتعل ، وكنت أدعو السماء ألا تقربها النار ، ففيها أقابل «الشجيع زورو» و»ريتا هيوارث « و»تشارلز لوتون» و»يوسف وهبي» و»أمينة رزق» و»ليلى مراد»،وكانوا جميعا أصدقائي،بما فيهم» ثريا حلمي» التي كانت تغني أحلى مونولوج كنت أحبه « فتح يا ابني فتح شوف مين بيكلمك ده أنا ولد مدردح وفتوة حتتك « . وكأن السماء استجابت لدعائي فلم تحترق السينما .
.............
أبتسم لذاكرتي التي أهدتني ملامح أول قبلة في الطفولة مع طفلة شاركتني لعبة عاطفية بريئة ، ولم أنس وأنا أخطو على أرض أثينا أني بعت كل شيء من أجل تذكرة على مركب لألحق بأميرة أحلامي التي تدرس بباريس، وكنت أعلم أني على سفر إلى صورتي في عيونها ولأسكن في آخر صوتها في ذلك الكوخ الذي أملكه لموسيقى ضحكاتها الفرحة حين تلقاني .

.............
ومازلت أعيد تريب أحداث الكون على ضوء تفاصيل حكايتنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.