بلغت أزمة فشل الدولة العربية الحديثة التى تأسست عقب الاستقلال حدا أضحى معه انهيار عدد من الدول العربية بل وانتفاء وجودها بالمعنى القانونى خطرا يُهدد فعليا، وإن بدرجات متفاوتة، سبعا من هذه الدول. أما بقية الدول العربية فإنها جميعا، باستثناء مصر التى تقدم نموذجا تاريخيا ومتفردا على النطاق الإقليمى لمفهوم الأمة، تعانى من عوامل تفكك هيكلية.وفى ظل عدم تطوير الأنظمة الحاكمة فى هذه الدول أى مشاريع تكامل وطنى حقيقية حتى اللحظة، فإن ما يحول دون امتداد مخاطر التفكك لأغلب هذه الدول ليس إلا بعض المعطيات الظرفية مثل امتلاك فوائض مالية ضخمة أو توافر دعم عسكرى خارجى لبقائها، وهى عوامل لا يمكن المراهنة على استمرارها حتى خلال الأمد المنظور. كما وبات غنيا عن البيان أن أزمة فشل الدولة العربية الحديثة ، ما عزز محفزات الصراع والنفي، لا التكامل، بين مكونات هذه الدولة. وفى ظل حقيقة أن العوامل الهيكلية المحفزة لتفكك الدولة العربيةوتفجر الصراع داخلها تُعدّ عوامل تاريخية ترتبط بشكل أساسى بالطبيعة الإقصائية التى ميزت نشأة هذه الدولة بل والبنى الاجتماعية والثقافية السابقة عليها، فإن تساؤلا مهما يثور حول أسباب تصاعد تأثير هذه العوامل فى اللحظة الراهنة. وفى الواقع فإنه إضافة إلى قوة القمع الداخلية فى بعض الدول العربية، فقد عزز تنافس القوتين العظميين فى ظل النظام الدولى ثنائى القطبية الذى تأسس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، من فرص الحفاظ على البناء الإقليمى الهش فى الشرق الأوسط والإبقاء على الدولة العربية المأزومة فى إطاره، طوال حقبة الحرب الباردة. وفى المقابل، فإن جزءا كبيرا ومهما من المحفزات التى أطلقت عوامل التفكك الهيكلية الداخلية للدولة العربية فى اللحظة الراهنة إنما يرتبط بتحولات استراتيجية الولاياتالمتحدةالامريكية تجاه المنطقة فى ظل مسعاها الأكبر لتكريس نظام عالمى جديد، طوال حقبة ما بعد الحرب الباردة وحتى تفجر الانتفاضات الشعبية العربية قبل أربع سنوات. ويمكن تبين ثلاثة مشاهد رئيسية لتلك التحولات فاقمت من أزمة الدولة العربية بداية، وحفزت تفككها وانهيارها لاحقا خدمة للاستراتيجية الأمريكية عالميا. يتمثل المشهد الأول فى العمل على إلحاق الدولة العربية فى حقبة ما بعد الحرب الباردة، فى النظام المعولم بِعدّها “دولة وكيل” لهذا النظام ومصالحه وقواعده التى سعت الولاياتالمتحدة لفرضها كقواعد حاكمة ليس فقط للتفاعلات الدولية أو الإقليمية، بل حتى لأبنية الدولة وتفاعلاتها الداخلية. ونلحظ فى هذا السياق أنه بينما عززت الولاياتالمتحدة دعمها للأنظمة الملكية فى الدول الغنية بالنفط لضمان تدفق هذا المورد الاستراتيجى لاستمرار نمو النظام الاقتصادى العالمي. كذلك ضمان تدفق الفوائض المالية التى تحققها هذه الدول إلى المركز العالمى لهذا النظام، فإنها عمدت لدفع أغلب الأنظمة الجمهورية عبر الإقليم للتخلى عن الجزء الأكبر من وظائفها التقليدية التى أسست شرعيتها خلال حقبة ما بعد الاستقلال والمتعلقة بتوليها المسئولية الرئيسية عن الإنتاج وإشباع الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها، وتبنى نظام تنموى بديل يعتمد على تقليص دور الدولة لمصلحة نخبة اقتصادية جديدة محدودة تحتكر النظام الاقتصادى الداخلى وتضمن تبعيته لمراكز النظام الاقتصادى العالمية بما فى ذلك نقل الجزء الأكبر من عوائد التنمية المتولدة فى هذه الدول إلى الخارج. وكانت المحصلة النهائية لنموذج الدولة الوكيل هو تآكل حاد فى شرعية الدولة العربية، وبروز تيارات رافضة لوجودها، سواء كانت تنظيمات جهادية تبنت خطابا دينيا وهوياتيا متطرفا، أو حركات معارضة ذات صبغة اجتماعية/اقتصادية. تمثل المشهد الثانى فى سعى الولاياتالمتحدة، عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، لفرض نمط حكم “ديمقراطي” فى الدولة العربية، بحسب معايير التوافق مع مصالحها الإقليمية، مثلما تجلى فى غزوها للعراق عام 2003. وبقدر ما كانت الولاياتالمتحدة تستهدف أن يكون العراق نموذجا للحكم الديمقراطى يمكنها تعميمه عبر المنطقة، فإن النموذج الطائفى الذى تبنته من خلال تمكين الأغلبية الشيعية، وتحرك العديد من الأطراف الإقليمية، بما فى ذلك دول عربية حليفة للولايات المتحدة، لتقويض هذا المشروع الأمريكى من خلال إثارة النعرات والصراعات الإثنية فى العراق، فتحا المجال واسعا أمام تفاقم الصراعات الإثنية التى كانت كامنة تحت قمع الإقصاء، لتختزل الإثنيات فى صراعاتها مجمل العبء التاريخى لأزمة فشل الدولة العربية الحديثة. وأخيرا، فقد أدى الفشل الأمريكى فى العراق، إلى بروز توجه فى دوائر التفكير ودوائر صنع القرار الامريكية يسعى إلى أن تتحرر الولاياتالمتحدة نسبيا من عوامل ارتباطها الهيكلى والتاريخى بالشرق الأوسط. وكان المنطق الحاكم لاستراتيجية التحرر النسبى –أو خفض الانخراط- تلك يعتمد على مقومين: المقوم الأول هو تقليص الاعتماد الأمريكى على نفط المنطقة من خلال استراتيجية لتطوير بدائل النفط الاحفورى التقليدي، أما المقوم الثانى فيتمثل فى خفض التهديدات النابعة من المنطقة للولايات المتحدة ومصالحها حول العالم، من خلال خلق وقائع جديدة فى المنطقة، فى ظل ما أسمته كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، عام 2005، “الفوضى الخلاقة”. ارتكزت تلك الفوضى الخلاقة على محاولة تمكين تيار الإسلام السياسى السني، ممثلا فى جماعة الإخوان المسلمين، ليس فقط بِعد هذا التيار، بحسب ما روج له كثير من مراكز التفكير الأمريكية، هو الأقدر على ممارسة الضبط السياسى الداخلى “المقدس” على شعوب المنطقة واحتواء نزوع أجنحته الجهادية الأكثر تطرفا لمهاجمة المصالح الأمريكية والغربية حول العالم، ولكن أيضا لخلق توازن ضعف مذهبى مع الإسلام السياسى الشيعى ممثلا فى إيران التى ظلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تسعى للتفاهم معها من خلال انتهاج سياسة العصا والجزرة، وما تعنيه احتمالات هذا التفاهم من إطلاق يد إيران فى لعب دور إقليمى أكبر. فى اللحظة الراهنة، يبدو أن سياسة التمكين الطائفى والمذهبى الفاشلة التى انتهجتها الولاياتالمتحدة لدعم استيلاء جماعة الإخوان المسلمين على مقدرات السياسة فى دول ما وصف ب”الربيع العربي” بالمخالفة لكل سيرورات التأسيس الديمقراطى التاريخية، لم تفض فى التحليل الأخير، إلا إلى تمكين التنظيمات الجهادية الأكثر تطرفا سواء برعاية الحكومات التى أسستها تلك الجماعة فى أكثر من دولة عربية قبل إطاحة شعوب هذه الدول بتلك الحكومات جميعها لاحقا، أو كرد فعل لمحاولات إيران المتزايدة استغلال أزمات المنطقة ودولها لتعزيز نفوذها المذهبي.ويبدو أن المشهد الإقليمى الراهن يرجح بالتالي، تفاقم الصراعات الطائفية والأصولية التى لن يكون لها من نتيجة إلا تعزيز احتمالات تفكك دولها وانهيارها. فى الخلاصة، فإن الدولة العربية لم تعد تمتلك فسحة كبيرة من الوقت لمواصلة إعادة إنتاج عوامل فشلها التاريخية، وبات بقاؤها فى الأمد المنظور يحتم عليها تجاوز نماذج الحكم الإقصائية، وتبنى استراتيجية إقليمية لدعم إعادة بناء الدولة الوطنية استنادا إلى أسس ديمقراطية حقيقية، وإلى مشاريع تنموية أكثر عدالة فى فرص الانخراط فيها وفى توزيع عوائدها بين جميع مواطنيها.