بعد كل المسافة الطويلة ما بين القاهرة ونيودلهي.. كان لابد من الأختيار: إما إعادة تكريس الهند بلد العجائب والطرائف, أو محاولة رسم الصورة الأخري لهند الحداثة. التي تحاول أن تأخذ مكانها في زمن العولمة, وعلي أي حال لكلا الصورتين عشاقها, وفي الأغلب أننا لانصبر علي الصور المعقدة, ولعل شعار المرحلة هات من الآخر ينبيء بنفاذ صبر علي تعقيدات الحياة, ورغبة ملحة في تبدل الأحوال أما بضربة حظ أو بمجيء المخلص. علي أي حال هذه ملاحظات في دفتر أحوال الهند وهي تنفض عن نفسها اللغة القديمة, وتختار الابداع سبيلا إلي الدنيا الجديدة. الزائر لأول مرة مثلي إلي نيودلهي لا يكف عن المتابعة في محاولة لأدراك اكبر قدر ممكن من الحقيقة, إلا أن البلدان والناس علي حد سواء لا يمكنهم إخفاء حالتهم المزاجية. ومن اللحظة الأولي تسربت إلينا أجواء الأمل, فقد كانت الثقة تملأ عيون الناس, وكان الاعلام قاسيا كالعادة إلا أنه لم يستطع أن يحجب صورة مجتمع ينهض, بل ويبادر في جرأة. ومن ثم فقد كانت العناوين تتحدث عن عودة الوظائف, وذلك إنطلاقا من عودة النمو الاقتصادي بقوة, والتقديرات تؤكد أن معدل النمو سيقفز إلي8.5% خلال العام الحالي( مقارنة ب7% هذا العام). والمدهش أنه في الوقت الذي يكافح فيه الاقتصاد العالمي للخروج من الركود, والتعافي من أثار الأزمة العالمية. ففي المقابل فان المستهلكين الهنود ينفقون ببذخ علي السيارات والسلع الاستهلاكية. ولمواجهة هذا النمو الكبير علي الطلب, فإن الشركات الهندية سوف تستثمر بكثافة التقديرات تذهب إلي استثمار اكثر من250 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة. وهذا لم يكن ممكنا لو لم تقدم الهند علي مغامرتها الجريئة الهند المبدعة التي غيرت مجري الحياة في البلاد, فقد أصبحت كلمة إبداع هي كلمة السر في جميع استراتيجيات الأعمال, وانتهي المطاف بتحول الهند إلي واحدة من مراكز الأبحاث العالمية. وبالقطع فإن الهند دخلت القرن الجديد بثقة اكبر, كما أنها أصبحت تعامل باحترام اكبر. هذه الأمور مجتمعة زادت من قدرة الهند علي المنافسة, والأهم من اجل تحسين حياة الناس؟! ويخطئ من يظن أن الابداع يعني عدم محاولة الإفلات من الماضي بقيوده, وأفكاره وقيمه التي تكبل الحركة. ففي مجتمع المعرفة والأبداع تهب علي الناس بدلا من الرياح الموسمية رياح أخري تلهب المشاعر, أنها رياح التغيير والمغامرة بتجربة الأفكار الجديدة, والتحرر من الأساليب القديمة في إدارة الأمور وحياة الناس. ومن هنا فإنه خلال الأيام القليلة التي أمضيتها في نيودلهي.. كانت البلاد مشغولة بمناقشة الموازنة العامة للدولة, وأمور أخري لعل من أهمها تخصيص مقاعد للمرأة في البرلمان وأقليات أخري, فضلا عن النهوض بالهند الأخري التي يعيش فيها الفلاحون وسكان الأرياف!. وتبدو مسألة تخصيص33% من مقاعد البرلمان الفيدرالي والبرلمانات المحلية بولايات الهند قفزة ثورية في مجتمع مازال ينظر للمرأة نظرة سلبية, والمرأة التي يمكنها أن تأخذ الثناء علي ذلك هي سونيا غاندي زعيمة حزب المؤتمر الحاكم في البلاد. وأغلب الظن أن هذه الخطوة الجريئة هي محاولة من اجل تحسين الحياة في البلاد, فاعطاء المرأة مقاعد اكثر يرجي من خلالها محاولة إصلاح والتغلب علي نظام اجتماعي متعفن. وهذه الخطوة رافقها تحرك من قبل قضاة المحكمة العليا بالهند من أجل أجبار الحكومات الهندية علي تفعيل الحقوق مثل الحق في الحصول علي الغذاء. وتجاوبت حكومة حزب المؤتمر وأقرت الحق في المعلومات وبرنامج العمل العام الذي يؤمن لسكان الأرياف100 يوم عمل , كما جري تمرير قانون يكفل الحق في التعليم لجميع الأطفال ما بين6 إلي14 سنة. من غير المثير للدهشة كيف لا تدرك النخبة أن الناس دائما تتطور تطلعاتها, ولذا لم يكن غريبا أن يبعث القارئ بهوشان شاندر جندال لبريد القراء بمجلة الهند اليوم ليقول إن الفلاحين الذين باتوا أكثر أرتباطا بالعالم.. أصبحوا يتحكمون في مصيرهم. لماذا؟!. يفسر جندال بقوله: إن الغالبية العظمي من سكان المناطق الريفية التي جري فصلها عن أساليب الحياة الحضرية من قبل لقد جري الآن إيصالها بأساليب الحياة الحديثة. وذلك من خلال المبادرات الحكومية وممارسة الشركات الصناعية التي تمد القري بالمعلومات وتوفر فرص شراء المحاصيل جميعها أدي إلي حياة أفضل للفلاحين. إلا أن هذه ليست بذات القدر من الازدهار مثلما حدث في الصناعة الهندية, فقد ظل الفلاحون تحت رحمة الأمطار الموسمية, فقد انخفض قطاع الزراعة بنسبة2.8%. ولأول مرة في تاريخ البلاد.. فسوف تسهم الصناعة في الناتج المحلي الاجمالي بأكثر من الزراعة. ومن أجل إلحاق غالبية السكان بالهند المزدهرة, فإن الحكومة الهندية تعطي المزيد من الأهتمام للقطاع الزراعي. كما أن شبكة الابداعات الريفية تركز جهدها علي إدخال الميكنة إلي قطاعات واسعة, والجميع يأمل في أن ينمو هذا الاقتصاد ب5% خلال العام الحالي. والهدف هو أن تتحول الهند إلي أحد مراكز القوي الكبري الزراعية مثل البرازيل. ويبدو السؤال المنطقي بعد هذه الملاحظات العديدة السابقة.. تري إلي أن يقود هذا كله؟. بالطبع هذا ماراثون طويل من اجل إصلاح حياة الناس, وأعادة اكتشاف الهند لذاتها والعالم من حولها إلا أن الكاتب الهندي إل.ك شارما كتب في تقديمه لكتاب الهند المزدهرة تشرق يقول بلا مواربة: إنها البراعة العلمية والتكنولوجية المتزايدة للهند التي صاحبها قوة الاقتصاد. هي ما شكل أداة دبلوماسية مؤثرة مناسبة للهند كي تستخدمها مع الأمم القوية. إلا أن هذه الثقة وتلك الأوراق الدبلوماسية المؤثرة أدت إلي نتائج باهرة مع القارة الأفريقية, وكان مؤتمر الشراكة الهندية الإفريقية لعام2010 الذي شاهدته عن قرب في نيودلهي شاهدا علي التطور الكبير للدبلوماسية الهندية. فلم يكن الحضور الكبير(400 مندوب من34 دولة), ولا التمثيل المرتفع( نائب رئيس دولة غانا وعدد من رؤساء الوزارات ووزارة التجارة والصناعة) وحده مؤشرا علي النمو المطرد, بل ما جري مناقشته من مشروعات حوالي134 مشروعا استثماريا قيمتها9 مليارات تقريبا. كما أن المائدة المستديرة والحوارات الثنائية بين كبار المديرين التنفيذيين ونظرائهم في أفريقيا أستهدفت القفز بالتجارة الثنائية إلي100 مليار دولار. ولذا لم يكن وزير خارجية الهند أس. أم. كريشنا مبالغا في أحلامه عندما قال إن بلاده تعمل من أجل إقامة شراكة اقتصادية ناجحة مع أفريقيا. ويبقي أن مصر تعيد التركيز علي الملعب الهندي, ومن أبرز اللاعبين المصريين وزارة التعاون الدولي برئاسة الوزيرة النشطة فايزة أبوالنجا, التي شاركت في القمة الأفريقية الهندية بنيودلهي عام2008, وأكد المستشار نبيل عبدالحميد حسن وكيل أول وزارة التعاون الدولي الذي رأس وفد مصر في مؤتمر الشراكة الهندية الأفريقية أن الهند تعد من الدول حديثة العهد بتقديم المساعدات لأفريقيا. وكشف عبدالحميد عن التوصل في مفاوضات ثنائية مع الجانب الهندي إلي شروط ائتمان تفصيلية وتسهيلات خاصة تتناسب مع مصر. ولم يكن غريبا أن تتجاوب الهند مع المطالب المصرية, نظرا لأن اليد المصرية ممدودة إليها لكي تنضم إلي شركاء مصر في التنمية. كما أن الفرص المتاحة التي توفرها مصر للمستثمرين الهنود هائلة, فضلا عن مناخ الاستثمار الايجابي الذي أسهب في شرحه السفير المصري لدي الهند محمد حجازي. ولا يتبقي سوي أن هذه لمحات من دفتر أحوال الهند وهي تفرض حضورها بقوة, وتوفر فرصا واعدة, ودروسا عدة يمكن للآخرين أن يروا أنفسهم في البعض منها. إلا أن علينا الحركة بسرعة وخفة, وأن نستعيد بعضا من مواقعنا القديمة, وأن تصغي النخبة المصرية لآراء فايزة أبوالنجا المصرية عندما تقول إن في أفريقيا فرصا عدة. نرجو ألا نصحو ونستمع للأراء المخلصة بعدما تكون الحصص قد جري توزيعها. وبالمناسبة استراليا في الطريق وتهرول هي الأخري باتجاه أفريقيا لنيل حصتها.