اللي بني مصر، كان في الأصل حلواني»، ومصر هنا هى القاهرة والحلوانى المقصود هو كما اشيع القائد جوهر الصقلي، الذى كان يجيد صناعة الحلوى قبل أن تجذبه الحياة العسكرية، وبيعه كمملوك للخليفة المنصور بالله، ولكن صفة الحلوانى لم تفارقه حتى بعد أن صار قائدا كبيرا. أما المعز لدين الله، الذى أرسل جوهر ليبنى عاصمة جديدة للخلافة فلم يكن حلوانيا بالمرة،كان مثقفا كبيرا، المعز لم يشاهد الا وبصحبته كتاب، كان يتوقف ليقلب فى الكتب لدى الوراقين، ويجادل الخطاطين، ويستعير المجلدات منهم، والأدهى أنه كان يعيدها اليهم، كان المعز يسعى لخلق مركز يتوسط اراضى الخلافة الفاطمية، ولكنه أرادها أيضا مدينة للاحتفال والبهجة، مدينة للتسامح والتلاقى، فكان داعية للاحتفال بالأعياد المسيحية، بل وبالأعياد الأقدم مثل عيد النيروز او شم النسيم. الحياة والاحتفال خارج البيوت ظلت سمة ملازمة لنا،مات المعز وهو فى الثالثة والأربعين من عمره،لم يقم بالقاهرة سوى ثلاث سنوات ودفن بيننا فى المدينة التى بناها وأحبها. صلاح الدين الأيوبي،هو أيضا من اصحاب القاهرة الكبار، فقد ضم داخل اسوارها المدن القديمةالثلاث: الفسطاط والقطائع والعسكر، كان صلاح الدين يقول انه لايحكم بسيفه وانما بثقافة ورجاحة عقل القاضى الفاضل الشاعر والأديب، وفلسفة ابن ميمون وعلم البغدادى،لم يستندالقائد الى القوة لفرض الإرادة، أصر على العدل والعقل، كان بسيطا فى حياته، لم يترك قصورا ولا بساتين دراهم قليلة عثروا عليها فى بيته بعد موته، صلاح الدين كان يرى القاهرة قلعة حصينة ضد التهديد المتكرر للصليبيين وغيرهم، ولكنه كان مشغولا أيضا بالدفاع عن الدولة من موقع الفكر، وبتخليص الإيمان من التشدد والدجل،كان يؤسس مدينة للإعتدال تستند الى حكمة الأئمة الاربعة الكبار. انتقل محمد على الى قلعة صلاح الدين ومعه رؤية لدولة قومية بمعناها الحديث دولة تحتكر العنف وتطلب ذلك مواجهات دامية مع حملة الأسلحة ، ليمنح مواطن المدينة امانه الكامل، هدم المصاطب فالطريق للحركة لا للجلوس، وازال المشربيات فمن يرانا من حقنا أن نراه، توارت بذلك النظرة الشرقية المختلسة، النافذة التى دخلت المدينة غيرت منطق الرؤية، كما غيرتهاالشوارع الواسعة والطرق المستقيمة، محمد على زرع نظرة حديثة فى عيون القاهريين، فقد فصل ما بين الكتل المعمارية، وابعد المدافن من وسط المدينة، وفرض طلاء المباني باللون الأبيض ، وادخل العربات كوسيلة للتنقل، إنها مدينة تتأهب لنقلة حداثية كبرى، كانت قمامة القاهرة تجمع ثلاث مرات يوميا في عهده، فتفاصيل المشهد تتضح بجلاء ولا تزاحمها النفايات، بنى الرجل للمدينة صورة تناسب طموحه، صورة متاحة للجميع لا للصفوة فقط ، وربما كان هنا مجال التماس الحقيقي مع أتباع سان سيمون الذين جلبهم الى القاهرة. الخديو اسماعيل هو صاحب أكبر بصمة على المدينة، لم تعد معه القاهرة مدينة إفريقية متواضعة العمارة، فقد ضم الرجل النهر الى قلب المدينة ونقل مركزها، بعد أن خلع عنه طابعه الديني او الإدارى، لم تعد القاهرة مدينة صحراوية ،أصبحت كما قال جزءا من المتوسط ومن اوروبا، انتهت العبودية رسميا، لتبدأ هواجس المواطنة والجنسية، استعان اسماعيل بالعديد من عباقرة أوروبا فى التخطيط كما منح على مبارك المصري القح ابن قرية برنبال ثقته الكاملة فشارك صاحب الخطط التوفيقية مع الكبار فى بناء القاهرة الحديثة، التى كانت تنتبه وقتها الى عصر الجماهير ، وتؤسس لميادين نجمية تستطيع كبح وتنظيم حركة الحشود. يبدو لى بالمقارنة، أن أصحاب القاهرة الان قد انهكتهم الهموم، ولى قصة تخصني كشاهد على عقلية المسئولين عن العمران فى بلادنا، فقد كلفت في نهاية الثمانينيات كمترجم بمرافقة وفد من رجال الأعمال الإيطاليين فى لقاء مع الوزير المسئول عن التعمير والمدن الجديدة، طلب منى الايطاليون أن أستفسر من السيد الوزير عن الزراعة فيما سمى وقتها بالحزام الأخضر، الذى سوف يحيط بالمدن الجديدة ، فرد الوزير بانهم يمكن ان يزرعوا اى شىء إلا الحشيش والأفيون وانفجر ضاحكا، فضحك الإيطاليون بدورهم ولكنهم تعاملوا مع المسألة بصفتها نكتة لطيفة، وعادوا للسؤال عن مصادر الرى ومناطق التخزين ووسائل النقل، وهل ستكون زراعة عضوية أم سيسمح بالمنتجات المعدلة وراثيا، وكان رد الوزير على كل هذا، أن لهم مطلق الحرية، طالما لن يزرعوا البانجو وضحك مجددا. قرر الايطاليون بعد هذا الرد الا يتعاملوا بجدية مع المسألة كلها، فانفض السامر. وأعتقد أن الأحزمة الخضراء قد اختفت بدورها. تركت القاهرة عقودا طويلة تواجه مصيرا بائسا .حتى أصبحنا نقيم في واحدة من اقذر مدن العالم واكثرها تلوثا وفوضى، ومازلنا نتعامل مع مشاكلها الكبرى بالقطعة، ومازالت متلازمة الفشل و الفساد تتربص بما تبقى منها، وتدفعنا الى مناطق مخيفة. أعتقد أن انقاذ القاهرة أصبح الآن مهمة شائكة، ولن يبدأ هذا فى تصوري إلا عندما تصبح المسئولية عنها جماعية، ويتطلب ذلك كيانا ذا صلاحيات حاسمة، كيانا تؤسسه العقول والقامات والخبرات المصرية الكبيرة، ويضم كفاءات مخلصة ومنتقاة بدقة من الوزارات والمحليات ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات ومراكز البحث، لا حل دون إنشاء كيان فعال، مهمته الكبرى إعادة تخطيط القاهرة لتصبح عاصمة معاصرة، ولو عبر جراحات صعبة، القاهرة، ستبقى مدينتنا العزيزة الهادرة ، التى نسميها مصر، والتى كانت يوما ما مكانا للبهجة، والتى كانت أيضا واحدة من أجمل مدن العالم . لمزيد من مقالات عادل السيوى