سكنت فى الحلم، وفى مخيلة أجيال، فى عوالمهم ووعيهم، وكان حضورها فى الحياة يشكل طمأنينة ما على أن ما مضى من حياة أجيال وراء أخرى من المصريين، لا يزال حاضرا فى إدراكهم وحياتهم، ومن ثم شكلت مع غيرها من نجوم السينما المصرية طمأنينة ما على أن ثمة إمكانا للعودة إلى ما يطلقون عليه زمنهم، أو أزمنتهم الجميلة. كانت فاتن حمامة، وسعاد حسنى، وشادية، وصباح، ومديحة يسرى، وزينات صدقى، وهدى سلطان، وغيرهن من صناع الجمال والحلم والفن فى حياة المصريين وفى مخيلة ووجدان أجيال فى العالم العربى، تعلموا معانى الحب والجمال والألم والسعادة من خلال الشاشة الفضية كما كانت تسمى آنذاك، وتعلم بعضهم من زينات صدقى أبجديات الضحك، ممزوجاً بفلسفة مصرية ساخرة، وودودة وقادرة على انتزاع البسمات فى ظل أقسى الظروف من قلب الوجدان واللغة الشعبية المحكية، بامتياز. من هنا فاض الحزن وتمدد منذ تردد الخبر أن فاتن حمامة ذهبت فى رحلتها الطويلة الغسقية فى الغروب، انهمرت على الواقع الافتراضى صورها الفاتنة منذ أن كانت طفلة وفى شبابها الغض إلى آخر صور لها فى شبابها الثمانينى وابتسامتها الناعمة المترعة بالجمال، حزن نبيل، وأسى عميق.. افتتحت فاتن حمامة، تاريخ من الذكريات والخيال والحزن والأسى واستدعاء خصوصية كل «فرد» فى علاقته بذاته ووعيه بها، وربطه فى بعض فضاءاته بسيدة الشاشة العربية، وصورها وأفلامها ومشاهد داخلها. الوعى التاريخى للمصريين، شكلت السينما أحد مكوناته الأساسية لأنها كانت من أوائل أدوات إنتاج المخيلة الجماعية، بل أستطيع القول إن تشكيل هويتهم، ومشتركات حياتهم جاءت عبر السينما والصحافة والأدب بمختلف أجناسه الرواية والقصة والشعر- والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقى المصرية بعد أن تحررت من الموروث التركى التقليدى وزمنه الراكد، وذلك من خلال الدور الذى لعبته هذه الفنون فى إطار تطور الحركة القومية المصرية. من ثم كانت وجوه ورموز السينما المصرية بل أيقوناتها اللامعة جزءا من بناء الوعى الجمعى بالأمة الواحدة التى ارتبطت بالدولة الحديثة. هذا الدور يبدو غائبا فى الخطابات التاريخية حول تطور الحركة القومية وتشكل الأمة المصرية الحديثة. ثمة تركيز فى الخطابات التاريخية السائدة على تعددها وبعض ابتساراتها او اختلافها- على الجوانب السياسية، ومواقف الحركة الوطنية الدستورية إزاء الاستعمار البريطانى دون نظر غالب المؤرخين للدور الثقافى والجمالى فى تشكيل الوعى الجمعى بوحدة الأمة والدولة المصرية الحديثة. أن التمثيل العفوى الفذ لزينات صدقى وموهبتها الاستثنائية فى تاريخ التمثيل والسينما المصرية، وقدرتها العبقرية على انتزاع البسمات من شفاه المصريين جميعاً، بل وضحكاتهم الخارجة من القلب والوعى بأنها تمثلهم وتعبر عنهم وصورتهم أمام ذاتهم الجماعية وأمام الأخرين والعالم، من هنا كانت ولا تزال تمثل تعبيراً فى العمق عن بعض مكونات شخصيتهم «الفردية» والجماعية، وأنها تمثلهم دون قسر أو إرغام. من هنا كانت فاتن حمامة، وبسمات وضحكات زينات صدقى وحضور سعاد حسنى البارز عميقاً فى وعى ومخيلة المصريين بذواتهم وروحهم وهويتهم وذاتهم. كان صوت شادية، ونجاة الصغيرة، وأم كلثوم، وصباح، وفايزة أحمد وصباح فى أغنياتها المصرية- تعبيراً وتشكيلاً لبعض مكونات وحدتهم القومية، ومعهم إنشاد المشايخ د.طه الفشنى، والنقشبندى، ونصر الدين طوبار وسواهم. وتتجلى هذه الوحدة القومية فى ترنيمات وأيقونات الكنيسة القبطية المصرية وموسيقاها وابداعاتها الممتدة عبر الزمن. من هنا تبدو اللوعة والشجن والحزن المصرى المعتق تبدو فيما وراء خطاب التغريدات والكتابات الصحفية والمتابعات الإعلامية المرئية والمسموعة الحزين على سفر فاتن حمامة الطويل فى الغروب، والدعوات الصادقة لها بالرحمة والسكينة والسلام الأبدى. أن الغياب فى الحضور، والحضور فى الغياب لفاتن وزينات صدقى، وسعاد حسنى، وسواهم من النجمات اللامعات، هو أحد تعبيرات الإحساس الشخصى أو الجمعى بأن زمنا ما، أو مرحلة ما قد طوتها تغيرات الحياة، وأنها لن تعود. ثمة إحساس جمعى بالفقد، والتراجع، وضعف الحضور فى عالم متغير ومصر فى سياقاته مأزومة، وثمة تحولات فى الوعى وإدراك بعض المصريين، ورغبة بعضهم فى إحداث قطيعة مع تاريخهم الحديث والمعاصر، حول طبيعة الدولة ونمط حياتهم شبه الحداثى، ومن ثم إحداث قطيعة مع مخيلهم الجمعى وذكرياتهم وقيمهم وحياتهم، بل وبعض ذكرياتهم الشخصية، فى الحب والألم والتنزه والإيمان والسعادة ونمط السلوك الاجتماعى والمسار الذى ارتبط بفاتن حمامة، وزينات صدقى، وسعاد حسنى وأصوات عذبة وقوية وجميلة عبرت عن حبهم وخيباتهم، وآمالهم وأحزانهم، وعذاباتهم، وحنانهم، ولطفهم.. ألخ. سعين جميعهن إلى تحقيق الحضور الأنثوى عبر مواهبهن اللامعة فى الحياة العامة، وفى وعى الجماهير على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والدينية، ومستوياتهم التعليمية، والأهم الكفاح من أجل تحقيق قيم المساواة والحرية والعدالة. عالم يغادرنا، وخيبات تداهمنا، وعذابات جماعية، وسعى حثيث نحو ما كان يجمعنا ويوحدنا ويشكل وعينا الجمعى وهويتنا المتخيلة. وثمة حنين عارم لإستعادة عالم ووجود وحضور يغادرنا، وأ أسفاه! لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح