موسكو كانت قالت كلمتها منذ ما قبل اندلاع لهيب الازمة السورية، يوم رفضت ارهاصات وتداعيات "الثورات الملونة" فى الفضاء السوفييتى السابق. حذرت العاصمة الروسية فى اكثر من مناسبة من مغبة هذه التطورات واشارت الى الذين يقفون وراءها، وقالت صراحة انها لن تسفر سوى عن ارتباك الموقف وتشوش الرؤية وهو ما ينسحب على موقفها من الازمة السورية التى تؤكد الاحداث انه لا خيار لحلها سوى عبر" المفاوضات السياسية" . وشأنما قالت منذ سنوات بضرورة الحوار وجلوس الاطراف المتصارعة الى مائدة المباحثات السياسية دون تدخل خارجي، تعرض موسكو اليوم الصيغة نفسها اطارا لما تسميه "ساحة موسكو" للحوار السورى - السوري. تكتفى موسكو برعاية هذا الحوار الذى بدأت فى توجيه الدعوة اليه منذ أواخر ديسمبر الماضي، اى بعد عودة ميخائيل بوجدانوف مبعوث الرئيس فلاديمير بوتين الى الشرق الاوسط من جولته التى زار خلالها كلا من سوريا ولبنان وتركيا، والتقى خلالها الرئيس بشار الاسد وعددا من اهم ممثلى الفصائل المتصارعة سواء الداخلية او الخارجية ومنها الموجودة فى تركيا. عاد بوجدانوف على قناعة اكثر بضرورة جمع هذه الاطراف بصفتهم الشخصية، وليس كممثلين عن تكتلات او احزاب او تنظيمات، درءاً للجدل والخلاف حول "حصة" وحجم التمثيل. وقالت المصادر الروسية ان الدعوات جرى توجيهها الى زهاء ثلاثين من هذه الشخصيات ومنها هادى البحرة ومعاذ الخطيب وهيثم مناع وحسن عبد العظيم وبدر جاموس وعارف دليلة ووليد البنى وجهاد مقدسى وملهم الدروبى وآخرون كثيرون. ومن المقرر ان تبدأ هذه المباحثات فى السادس والعشرين من يناير الجارى لتستمر يومين بين اطراف المعارضة السورية الداخلية والخارجية، على ان يلحق بالمشاورات فى اليومين التاليين وحتى 29 يناير الجارى ممثلو الحكومة السورية. وقد اوكلت موسكو ادارة جلسات الحوار الى شخصية روسية من دائرة المستعربين العارفين بشئون المنطقة، فضلا عن تاكيد وحرص الدوائر الرسمية على عدم دعوة اى من ممثلى القوى الخارجية. واعادت الى الاذهان ان المعارضة السورية لم تشارك فى اول مباحثات تناولت مفردات النزاع السورى وهى مباحثات جنيف فى يونيو 2012 ، التى كانت اسفرت عن اتفاق اطر اودعته ما سمى آنذاك ب"وثيقة جنيف-1"، وتعتبرها موسكو اساسا جيدا للانطلاق نحو استئناف الحوار الذى يكلل بالنجاح فى اعقاب انعقاد جنيف. ونذكر ان ميخائيل بوجدانوف المبعوث الشخصى للرئيس الروسى الى الشرق الاوسط ونائب وزير الخارجية المسئول عن ملفات البلدان العربية، كان اول من طرح فى حديثه الى "الاهرام" منذ ما يزيد عن العام فكرة دعوة موسكو الى مؤتمر او منتدى يضم ممثلى المعارضة والحكومة السورية. وقال آنذاك باستعداد موسكو للوساطة، بل اجلاس الطرفين فى غرف منفصلة واضطلاع الجانب الروسى بمهمة نقل وجهات نظر كل من الطرفين الى الاخر. وهاهى ذات الاطراف تقبل الفكرة نفسها، وتزيد عليها بموافقة الجلوس مباشرة بعد ما يزيد عن العام، تكبدت فيه وشعبها الكثير من الهوان والخسائر المادية والبشرية، دون مساعدة تذكر من جانب اى من الاطراف الخارجية التى ظلت خلال تلك الفترة تؤجج الخلافات، وتلقى بالكثير من الزيت فى أتون الخلافات التى الهبتها بالكثيرمن الاسلحة والعتاد العسكرى، ما اسفر عمليا عن تزايد دعم صفوف "جبهة النصرة" واتساع نطاق نشاط تنظيم "الدولة الاسلامية فى الشام والعراق" (داعش)، ما يساهم اليوم فى توسيع حدودها وزيادة رصيدها من اراضى العراقوسوريا مدعوما بما "تستخرجه عن غير حق " من نفط الدولتين الذى تشتريه تركيا بابخس الاثمان، وبمساعدة مرتزقة من افغانستان والشيشان وتحت رعاية وبمباركة قوى عربية وغربية بعينها دون وازع من ضمير او احترام للشرعية الدولية. وتوقف بوجدانوف بالكثير من التفاصيل عند ما حل بالعديد من المناطق والبلدان المجاورة من مآس وكوارث مثل العراق وليبيا وغيرهما، وإن اشار الى نجاة مصر من مثل هذا المصير الماساوي، وكانت هناك قوى تريد لها ذلك، وهو ما اوجزه الرئيس فلاديمير بوتين حين قال صراحة انه " لولا ما قام به المشير السيسى فى مصر للقيت مصر نفس المصير، الذى تواجهه ليبيا والعراقوسوريا". وبهذه المناسبة نشير الى ان المحكمة الروسية العليا، وكما سبق واتخذت فى فبراير 2003 قرارها بادراج منظمة "الاخوان المسلمين" ضمن قائمة المنظمات الارهابية التى حظرت نشاطها ووجود ممثليها داخل حدود الدولة الروسية، عادت واتخذت فى ديسمبر الماضى قرارا مماثلا يعتبر تنظيمى "الدولة الإسلامية"( داعش) و"جبهة النصرة" منظمتين إرهابيتين، فيما دعت موسكو كل بلدان العالم إلى ان تحذو حذوها ، وانطلقت فى ذلك من اعتبار قرار المحكمة "خطوة مبدئية فى سياق تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي"، كما اشار البيان الصادر عن وزارة الخارجية الروسية بهذا الشأن. ومن اللافت ان موسكو كانت ولا تزال تعلى الشرعية الدولية فى التعامل مع القضايا الدولية، وهو ما سبق ودفعها الى المبادرة باحتواء "مغامرات" الادارة الامريكية و"شطحات" الرئيس اوباما الذى هدد بقصف سوريا بحجة استخدامها للاسلحة الكيماوية، وهو ما ثبت بالدليل القاطع "زيفه وبهتانه". ويذكر الجميع ان موسكو تحديدا كانت اول من بادر باقناع الرئيس السورى بشار الاسد بالموافقة على تصفية ما تمتلكه بلاده من اسلحة كيماوية، لتساهم فى نزع فتيل الازمة، التى عادت واشنطن وحلفاؤها الى اشعالها مجددا بحجة "مواجهة "داعش" والارهاب فى المنطقة بعيدا عن الاممالمتحدة وهو ما اعلنت موسكو عن رفضها له وعدم المشاركة فيه. وقالت بهذا الصدد ان ما تفعله واشنطن فى هذا الصدد هو "الحق الذى يراد به باطل" . والباطل هنا بين وتقصد به استهداف النظام السورى بالدرجة الاولى، حسبما يؤكد المراقبون فى موسكو. وعن طبيعة مشاورات موسكو التمهيدية، قالت مصادر روسية ل"الاهرام" فى موسكو ان هذه المشاورات سوف تتخذ "وثيقة جنيف-1" متكئأ للانطلاق نحو عالم اكثر رحابة يسمح بالتفكير فى كل ما يعن لاى من اطراف هذه المشاورات، بما فى ذلك تشكيل الحكومة الائتلافية، بل النظر فى مصير الرئيس السورى بشار الاسد، اذا ما طرح اى من المتحاورين مثل هذه القضية. وحرصت هذه المصادر على تاكيد ان مثل هذه القضايا "مسائل تتعلق فقط باطراف المشاورات وليس من حق اى طرف خارجى "التدخل" فيها" . واضافت ان نص الدعوة يطرح ضمنيا الاسس التى انطلقت منها موسكو فى توجيهها، حيث تشير الى عدد من المبادئ التى استندت اليها لدى طرح الدعوة الى الاطراف المعنية الى لقاء موسكو. وقد تصدرت هذه المبادئ والثوابت، مواقف موسكو تجاه احترام سيادة واستقلال ووحدة اراضى الدولة السورية، فضلا عن الاشادة بعلاقات الصداقة بين الشعبين وما يكنه الشعب الروسى من تعاطف وما يشعر به من آلام تجاه ما لحق بالملايين من ابناء الشعب السورى من كوارث وما تكبده من ضحايا، الى جانب تاكيد موقفه الرافض لكل اشكال الارهاب الدولى وممارساته ضد سوريا وشعوب المنطقة. واكدت الدعوة كذلك على عدم وجود اى بديل آخر للتسوية السياسية، وعدم وجود اى خيار عسكرى للموقف الراهن، وكذلك الحرص على المساهمة فى الجهود الدولية الرامية الى ان يتولى السوريون انفسهم تقرير امورهم بعيدا عن اى تدخل خارجي، وبما يدعم نجاح مهمة السيد ستيفان ميستورا المبعوث الشخصى للامين العام للامم المتحدة. وحتى بداية المشاورات فى السادس والعشرين من يناير الجاري، تظل الانظار تتعلق بالعاصمة الروسية فى انتظار ما سوف تسفر عنه هذه المشاورات من نتائج يعرب الكثيرون عن امالهم فى ان تكون انطلاقة حقيقية صوب استئناف المباحثات من اجل وضع حد للنزاع القائم بين ابناء الوطن الواحد.