سال خلال الأيام القليلة الماضية حبر كثير عن مجزرة الهجوم فى باريس على مجلة شارلى إيبدو، وكانت كلها اجتهادات وآراء تحتمل الصواب والخطأ كما قال الشافعى فى عبارته الشهيرة رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب!» وأيضا ما جاء على لسان فولتير مفكر عصر الأنوار «قد أختلف معك لكنى مستعد أن أدفع حياتى ثمنا لحقك فى الدفاع عن رأيك»، وذهب البعض إلى أنه من الطبيعى من جانب كل حامل قلم وصاحب رأى حيال الجريمة البشعة هو الاستنكار دون تبريرات أو تفسيرات، وهذه جريمة تستحق الاستنكار لأن مرتكبيها لا يخدمون الدين الاسلامى كما يزعمون بل يسيئون إلى صورته حول العالم، وإلى معتنقيه الذين يحملون الجنسيات الغربية أو يعيشون فى دولها أكثر مما يمكن أن يسىء إلى هذا الدين أى عدو آخر. ولا حاجة للبحث كثيرا للتأكد من ذلك اذ يكفى أن نتابع صعود الجماعات العنصرية اليمينية المتطرفة فى الدول الأوروبية بعد كل عمل جهادى من نوع الجرائم التى وقعت فى باريس.. فهى جماعات برنامجها الوحيد هو طرد المسلمين من أوروبا حتى لو اقتضى الأمر نزع جنسياتهم التى استماتوا للحصول عليها بعدما عزت عليهم الإقامة الكريمة فى بلادهم الأصلية! وقد رأى أستاذ الفلسفة جيسون ستانلى فى جامعة ييل الأمريكية فى مقال له بجريدة النيويورك تايمز الأمريكية أن فرنسا إحدى الدول التى ولدت فيها ثورة الديمقراطية الليبرالية، ولعب التعبير بالسخرية فيها دائما دورا خاصا، فالسخرية فى رأيه منهج أساسى يستطيع العقل من خلاله مخاطبة السلطة، وفى هذا الإطار استخدم رسامو الكاريكاتير فى مجلة شارلى «ايبدو» أسلوب السخرية للاستهزاء من الشخصيات الدينية الرمزية للاسلام، لكنهم أخضعوا أيضا البابا فرنسيس لإستهزااء مماثل، ولم تكن أى شخصية ممثلة بسلطة فى مأمن من نهج هذه الصحيفة. هنا يلاحظ ستانلى أن اعتبار شارلى ايبدو تستهدف الاسلام بالسخرية دون غيره هو اعتبار ليس فى محله، ولكن فى الوقت نفسه يدرك جهاز التحرير فى الصحيفة أن فى فرنسا اختلافا بين السخرية من البابا والسخرية من النبى محمد صلى الله عليه وسلم فالبابا يمثل الدين التقليدى المهيمن على غالبية الفرنسيين، فى حين أن النبى محمد صلى الله عليه وسلم هو الرمز المبجل لأقلية مضطهدة، ومن هذه الزاوية فإن السخرية من البابا تعد تحديا لسلطة حقيقية هى سلطة الغالبية.. أما السخرية من النبى محمد صلى الله عليه وسلم فتضيف الإهانة إلى الظلم. ويضيف ستانلى أن الهدف من تحدى السلطة الذى انتهجته دائما الصحيفة هو إرغامها على التواضع وتذكيرها دائما أنها تحت عين المجتمع فكريا وسياسيا. الحدث كان محل نقاش واسع فى الشارع العربى والتركى، فالمذهل أن يكون البعض مقتنعا بأن الرسامين نالوا ما يستحقونه لاهاناتهم مقدسات الاسلام! كما ذهب البعض إلى أنه آن لأوروبا أن تذوق ما نتجرعه يوميا من قمع واغتيالات.. أما الهذيان التآمرى المطلق فهو مايقال عن أن الأجهزة الأوروبية جندت الأخوين كواتشى وشريكهما لتنفيذ العملية لتبرر لاحقا تدخلا عسكريا غربيا فى سوريا على غرار ما جرى بعد 11 سبتمبر 2001. وقد رفعت بعض دول شعارا معاكسا للشعار الذى رفعه معظم الفرنسيين (أنا شارلى)، وكان شعارهم أنهم ليسوا شارلى وأنهم مختلفون معه جملة وتفصيلا، فهؤلاء يرفضون السياسة التحريرية للمجلة الأكثر احتجاجا واستفزازا بين الاصدارات الأوروبية الساخرة حتى اتهمها البعض بالصحيفة اللامسئولة، لأنها لا تحسب نتائج ماتنشره وأخطاره سواء على فريق العمل أو الغير من المواطنين العاديين الذين قد يدفعون حياتهم ثمنا للتحريض ضد مجموعة من المهاجرين والإساءة إلى مقدساتهم، وتلك مبدئيا من الشروط المهنية الأولى، فأول ما يفترض أن يفعله المحرر الصحفى هو الموازنة بين الفائدة والضرر مما ينشر، لكن رئيس تحرير شارلى ايبدو كان يملك إجابة حاسمة عن السؤال فسبق أن قال فى مقابلة صحفية «أنا فرنسى ومقدساتى ليست مقدسات المسلمين وهنا أخضع لقانون بلادى الذى لم أخرقه، وإذا كان هذا التصريح يحتمل الصواب فإن بعض الفرنسيين المعتدلين أخذوه على محمل آخر، واعتبروا أنه عوض عن الدفاع عن القيم الفرنسية ينحى برئيس التحرير إلى إعلاء صوت اليمين المتطرف الكاره للأجانب ومعتقداتهم، والرافض لقبول مقدساتهم، ولا يتوانى عن إهانتهم بذريعة حرية التعبير، ويذهب كل من ليس شارلى أبعد فيعتبرون أن سياسة التحرير فى المجلة التى أطلقها مناخ اليسار الستينى وحركات النضال والتحرر ونشرت بدورها تلك القيم التقدمية قدانقلبت اليوم إلى يمينية محافظة ولا هم لها سوى تحقير المهاجرين. الواقع أن شعار (أنا لست شارلى) الذى أطلقه البعض فى فرنسا نفسها على عكس الأغلبية يحمل أيضا شيئا من مخاطبة المسلمين المهاجرين بلغتهم وكأن هناك من يريد أن يقول لهم «لستم كلكم إرهابيين ولسنا كلنا عنصريين».. وفى ذلك محاولة مد جسر يجب أن يعبره العرب والمسلمون الحريصون فعلا على تمييز أنفسهم عن أصحاب الخطاب الأول ولكن هل يتم ذلك بتبنى الشعار نفسه «أنا أيضا لست شارلى» فى الحقيقة نحن بالتأكيد لسنا شارلى وتفصلنا عنه سنوات ضوئية ولا يحق لنا وإن رغبنا ضمنا تبنى ذلك الموقف النقدى وليس ذلك تقليلا من شأننا، بل لأننا يجب أن نملك شجاعة الاعتراف بأننا لم نحطم أصنامنا بعد ولا فصلنا الدين عن الدولة ولا اتخذنا إصلاحات فى المؤسسة الدينية والسياسية ونقاشاتنا فى العنصرية وحرية التعبير وغيرهما لا تتعدى كونها عملا مضادا نرشق به الآخر. نحن العرب فى حاجة ملحة إلى أن نحسم موقفنا سريعا من أسئلة تتجاوز بساطة النقاش الدائر حول حرية التعبير والمس بالمقدسات، وقبول القتل تحت أى مسمى أو رفضه رفضا قاطعا. د. عماد إسماعيل