قرب صفحة النيل الخالد، التفت «حكيم» المهموم بانهاء انقسام البشر فى بلدته، فوجدها، جاءه صوتها.. «ممكن نتكلم يا أستاذ حكيم من فضلك؟ أنا....». قاطعها سريعا قائلا: «منة الله.. بنت أرض التنظيم، اتقابلنا قبل كده وقت حوارى مع والدتك، ما اتكلمناش، لكن كنت عارف ان عينيك الحزينة بتخفى كلام، أظن انه مختلف». قالها وابتسم، فأزاح عن روحها غطاء، طالما أحكمت بنفسها اغلاقه، فاستحال بياض وجهها الصبوح حمرة، بفعل الحزن وارتباك التجربة الأولى، تجربة أن يستمع لها أحد. تعثرت الكلمات فى ثوانى الانتظار، فأكمل «حكيم» كشف الغطاء قائلا: «ليه كل الحزن ده يا منة؟».. لم تحتمل، فتبدل الحزن دمعا ظل يجاهد ألا يغادر مقلتيها.. نظرت نحو النيل ونطقت.. «الحزن! الدنيا كلها حزن، الموت حزن، الكره والطرد حزن، جربت تكون منبوذ من الكل؟». زفرت زفرة حارقة لتعاقب دمعات عجزت عن الجهاد فسالت من عينيها، ثم مسحتها بمنديلها وواستها بقولها: «لقد خلقنا الانسان فى كبد». سعى هو للتخفيف عنها فقال مبتسما: «أنا جربت أكون مجنون ومشبوه كمان، ما تعرفيش حكيم المجنون؟!». ندت عنها ضحكة صغيرة وقالت: «أهل الخير والمصلحين كلهم اتهموا بالجنون». طرب بداخله لكلماتها، لكنها استدركت بدموعها: «بس حتى انت، مهموم بالصلح بين حى الاستقرار وشباب الاستقلال وبس، كأننا مش موجودين، كأننا شياطين، احنا كنا....أنا كنت عايزة شريعة الخير تسود البيت وأهله، بس اتطردنا منه، كان نفسى يعم الصلاح والحب، ويبقى الكل سعيد برضا ربه، بس ايه اللى وصّلنا لكده؟.. يمكن الغلط هو... مش عارفة، ما بقيتش عارفة». رد «حكيم»: «البشر مش ممكن يبقوا شياطين ولا ملايكة يا منة، والخير فضيلة، ورضا ربنا هدف أسمى، بس الوسيلة تبقى ازاى؟.. الكبد اللى اتخلقنا به هو اننا نصارع الشر جوانا احنا، مش نقول احنا اهل الخير ووظيفتنا مصارعة الأشرار. بين البشر، الغير له النصيحة مش الهداية يا منة. عشان كده بيكون الطرد للخارجين عن طبيعة البشر. والقهر والحرق والهدم والدم مش وسائل هداية». «الدم».. قالتها منة الله، ثم كشفت بنفسها غطاءها، وانفجرت دموعها، قائلة: «كفاية بقى دم، تعبت من الدم، فقدت أبويا وأخويا، ومش عارفة أصلا هم دلوقتى يعتبروا..... أنا مخنوقة، ومش قادرة أتكلم، حتى فى البيت». تحدثت وبكت لأول مرة، ثم صعقته بطلبها: «أرجوك، اهدينى بروحك الصادقة، أعمل ايه؟».