قصة تختلف ... تلك التى كانت تنتظرنا أول أيام العام الجديد قبل الغروب بلحظات عند شاطئ النيل بكورنيش المعادى المتسع على مرمى البصر. والقصة خاصة بكنيسة ودير السيدة العذراء التى تلزم هذا المكان بالمعادى عند شاطئ النيل منذ القرن السادس الميلادى وهو زمن بناء الكنيسة ، وإن كان المكان معروفا قبلها كمحطة من محطات رحلة العائلة المقدسة إلى مصر المحروسة التى بدأت من فلسطين، حين حملت السيدة العذراء طفلها السيد المسيح وفى صحبتهما يوسف النجار إلى بر المحروسة بحثا عن الأمان بعيدا عن بطش الملك هيرودوس. فالرحلة لم تكن سفرا أو رحلة استمتاع، ولهذا لم تختر العائلة المقدسة أيا من الطرق الثلاثة المعروفة للسالك إلى مصر من فلسطين، وإنما طريقا خاصا سلكته العائلة والعهدة على المصادر القبطية ومنها ميمر البابا ثيئوفيليس بابا الاسكندرية. فقد كان الطريق وعرا، والخطر الأكبر هو هيرودوس نفسه الذى أراد أن يعثر عليهم، وأستمر الحال حتى وصلوا إلى مصر ليدخلوا - كما يقول كتاب «العائلة المقدسة فى مصر» - عن طريق صحراء سيناء من جهة الفرما بين مدينتى العريش وبورسعيد. تبدأ وقائع رحلة العائلة المقدسة التاريخية فى ربوع بر مصر، فتعبر إلى تل بسطا بالقرب من الزقازيق فتسقط الأوثان على الأرض، وتصل إلى مسطرد بالقرب من القاهرة فتحمم السيدة العذراء السيد المسيح وتغسل ملابسه، وتتجه العائلة مرة أخرى للشرق تحديدا إلى مدينة بلبيس بالشرقية، ومنها إلى منية سمنود التى استقبلهم أهلها و مازال بها ماجور من حجر الجرانيت يقال إن السيدة العذراء عجنت به، وينتقلون إلى سخا بكفر الشيخ عبر برارى بلقاس. ويحصل فرع رشيد على نصيبه من الرحلة فى طريق العائلة المقدسة إلى وادى النطرون، لتذهب العائلة ناحية عين شمس و المطرية حيث توجد شجرة مريم و عين ماء غسلت فيها السيدة ملابس ابنها فنبت فى المكان نبات عطرى يعرف بنبات البلسم. ومن الزيتون تصل العائلة المقدسة إلى مصر القديمة وهى محطة أخرى مهمة فى رحلتها بدليل وجود العديد من الكنائس الأثرية منها كنيسة القديس سرجيوس وبها الكهف المغارة الذى لجأت إليه العائلة المقدسة، وتنتقل العائلة من مكان إلى مكان فى صعيد مصر حتى تصل إلى درنكة بأسيوط. ونعود إلى كنيسة المعادى التى توقفنا عندها، فربما لا تكون أشهر وأقدم الكنائس والأديرة الموجودة فى بر مصر, كالموجودة فى وادى النطرون ومصر القديمة وجبل الطير, إلا أنها المكان الذى مكثت به العائلة المقدسة أياما قبل أن يقلهم مركب فوق نفس صفحة النيل الممتدة إلى مدن الصعيد التى شهدت نهاية الرحلة, تحديدا فى درنكة بأسيوط، لتعود العائلة بعدها إلى فلسطين بعد نحو ثلاث سنوات ونصف. كل هذا التاريخ مازالت تحتفظ به الكنيسة وبمخطوط أبو المكارم الذى كتب فى القرن الثانى عشر، ولهذا يتم الاحتفال كل عام بذكرى هذه الرحلة التاريخية فى عيد دخول العائلة المقدسة إلى أرض مصر الموافق الأول من يونيو. وللقصة تفاصيل أخرى منها ما حدث فى يوم الجمعة 12 مارس عام 1976 حين وجد المصلون الكتاب المقدس مفتوحا على سفر أشعياء النبى «مبارك شعبى مصر» طافيا على سطح الماء المواجه للكنيسة. ولكن هل انتهت القصة عند هذا الحد؟ لا أعتقد, فهذه الصفحة الممتدة من النيل تبدو بعمق تاريخ المصريين. فعلى مسافة ليست بالبعيدة تتجاور كنائس ومساجد مصر القديمة، وعند الروضة يقف مقياس النيل، وفى المعادى نفسها كانت أول حضارة مصرية، وفى شوارعها يتناسق لون الخضرة المميز مع واجهات بيوت من الزمن الجميل. فتلك مصر المحروسة التى رضى الله تعالى عنها...بوجود الأنبياء والصالحين وآل البيت والقديسين. وتلك لمحة من رحلة أطهر نساء العالمين السيدة مريم وابنها السيد المسيح كلمة الله الذى نحتفل بمولده ومولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم. فسلام على مصر المباركة.