حديد ودم وضع الحدَّاد على النار الحامية كومة مواسير بنادق آلية جلبها من مخلفات الحروب، فلمَّا سرى الدفء في صلبها الأجوف راحت تنز دمًا ثقيلًا وغزيرًا، فأطفأ النار، وانبعث وسط الدخان والأبخرة المتصاعدة أصوات أنين وزعيق وعويل واستغاثات وحمحمة، تتقطع لها نياط القلوب العاصية.موعدسحرته الغريبة حين جلست بجانبه في الحافلة، انشغل بها فشعرت به، وجلسا يسألان نفسيهما صامتين عن الحب من النظرة الأولى. ارتج قلبه فأثقل لسانه، واستسلم للحرارة الخفيفة التي تصله من التصاقهما العفوي. حين جاءت محطتها قامت مسرعة إلى الباب. خطف ورقة من حقيبته وكتب فيها بسرعة: « أسرت روحي وأتمنى لقاءك»، ومدها إليها من النافذة وهي تخطو نحو الرصيف. أخذت الورقة، ولما فتحتها أشرق وجهها بنور عجيب، وفمها بابتسامة عذبة، وأومأت برأسها موافقة، فغرق في سعادة غامرة، وأغمض عينيه، ولم يدر بأن الحافلة مضت إلى الأمام. حين أفاق تذكر أنه لم يكتب اسمه، ولا رقم هاتفه، ولا حتى مكان اللقاء المنتظر وزمانه. مصعد تعطل المصعد فدفع ساقيه نحو سلم البناية الشاهقة. عند الدرج التاسع وجد أمامه فراغًا مظلمًا. وقبل أن ينقل قدميه نحو المجهول، جاء صوت من قلب العتمة: ألم يئن للعجوز أن يعلم أن السنين قد جرت بعيدًا. ظل مشي متثاقلًا من فرط الهموم والأحقاد نحو سلم الحافلة. ترنح عند أولى الدرجات، فتناثر ظله كشظايا زجاج ضربته العاصفة، وداسته أقدام المسافرين. قزم ونخلة هرع أهل القرية جميعًا، وفرغت البيوت حتى من الخُدَّج والرُضَّع ليروا القزم وهو يمتصي صهوة أطول نخلة في الوجود، ويرمي نحوهم رطبًا شهية، لكنها لا تصل إليهم أبدًا. موت الحارس مات الحارس الأمين ونفق حصانه، وتيبس الرصاص في بندقيته الصدئة، وركب اللصوص خيول الليل، فجفا العيون النوم، ولم يطلع على بلدتنا نهار. خولي الأنفار رحل خولي الأنفار ذو الجسد النحيل، وحزنت لغيابه الحقول، ولما طالت الغيبة كان على من بيده مقاليد الأمر أن يعين آخر، وجمع الفلاحين وسألهم: من يستطيع أن يكون مكانه؟ فنهض رجل بدين وفارع الطول من آخر الصف، وقال: أنا لها. وتخطى الرؤوس في عجل، لكنه حين ارتدى بذلة الخولي القديم غطس فيها، وانكتمت أنفاسه، وسقط مغشيًا عليه. طائرة تأخرت الطائرة عن موعدها، فراح يجري في صالة المطار الطويلة الباردة فاردًا ذراعين ترفرفان بقوة، وينادي المسافرين المتأخرين، كل أحد باسمه، أن يلتحقوا به. غزل صريح حملق في الطائرة المرسومة على صدر بلوزتها وراح يتلمظ. انتبهت إليه فارتبكت ثم تماسكت وسألته في غيظ: هل تعجبك الطائرة؟ رد عليها في برود: بل يعجبني المطار؟ سلام طوح الرجل المهيب العصا، وشرخ بها الهواء، ثم صوبها في اتجاه خصمه اللدود، فأحنى رأسه ليتفاداها وهو يسمعها تقول: لو خيَّروني لبقيت مكاني غصنًا يرقص في الريح، وينصت إلى تغريد العصافير، ويرخي ظله على رؤوس العابرين. فألقى خنجره تحت قدميه، ومد يده إلى من يقاتله مصافحًا. قراءة غابت الشمس عليه وهو يلتهم سطور الرواية الفاتنة على شاطيء النهر الرائق، فشعت الحروف نورًا مبهرًا، وسمع هاتفًا يقول له: يتواطؤ الكون كله من أجل ألا يُحرم عاشق من معشوقه. شجرة جاءت جلسته في وجه الشجرة الماحطة المرسومة على جدار السور العالي، قام وهز جسده بقوة ونفخ بفمه زفيرًا عارمًا، وطوح حقيبته في الهواء، فهبت نسائم رخيَّة، فراحت الأوراق تنبت سريعًا حتى اكتست الشجرة بالأخضر البديع، نظر إليها مليًّا والفرحة تملؤه ثم خلع حذاءه الأجرب، وراح يتسلقها وسط دهشة الجالسين. حديقة جاء وطفلته متأخرا إلى الحديقة ذات الأشجار الباسقة. عند بابها خطفت القطط الجوعى طعامهما، وعند سورها العالي خطفت الموسيقى الصادحة العذبة روحيهما. كانت الحديقة زاخرة بالزائرين فلم يجد له مقعدًا خاليًا، ولم تجد طفلته مكانًا في ألعابها البسيطة المتنوعة. وقفا في منتصفها حائرين، وتبادلا نظرات حزينة، ثم انصرفا صامتين، من دون أن يشعر بهما أحد. مقعد جلس فوقي الآلاف في هذه العيادة الطبية الكئيبة، سمعت أنينهم وشكواهم من تجهم طبيب المرض الخبيث وعجرفته، وتسربت إلى صفحتي وأرجلي ضربات قلوبهم من وجل وأمل. بعضهم جاء مرات سعيا وراء شفاء عصي، وآخرون ذهبوا بلا عودة، دون أن يدري أي منهم أن مرضًا عضالًا قد أصابني، وأنني أجبر نفسي على تحمل أجسادهم الثقيلة، وأؤجل انهياري على قدر استطاعتي، إشفافًا عليهم. مظاهرة وقف على الرصيف يراقب حشد ضخم من الطلبة خرجوا من باب الجامعة الوسيع في مظاهرة حامية، وهم يرفعون أكفهم في غضب صارخ لعلها تمنع بعض القنابل الحارقة من السقوط على رؤوس الأطفال في بلاد بعيدة. أطال النظر إلى قبضات الأيدي والأفواه المفتوحة حتى آخر ضفتيها وأنصت إلى الهتافات المدوية، وفجأة خلع معطفه، ورمى نفسه وسط الحشد مغمض العينين، وراح يهتف بقوة وهو يدق الهواء بقبضته تاركا جسده للرفاق يدفعونه إلى الأمام. لمَّا وصل المتظاهرون بالقرب من محطة الحافلة التي سيستقلها إلى بيته إنسل من بينهم، وارتدى معطفه، وأعطاهم ظهره، ونسيهم تمامًا. مشط رفع رأسه إلى المرآة والمشط في يده، يدفعه إلى أعلى وهو يبتسم. حين عاد من شروده القصير أذهله أن شعره الذي كان حريرًا يهفهف في نسائم الربيع قد ذهب، ولم تبق منه سوى خصلات متناثرة تحط على أذنيه وتهمس: لا تأس على ما راح، وارض بما أتى. رمى المشط من النافذة، ومدد راحته على مهل لتستريح فوق بقعة النور التي تحط على رأسه، فترقص لها المرآة أمامه. عشق سألتها صاحبتها متعجبة: لماذا تصغرين مع مرور السنين؟ تنهدت غارقة في أسرار عشقها الدفين، ولاذت بالصمت، بينما قلبها يقول: لا يشيخ من يجود الزمان عليه بالوصال. سراب أنزلته العربة على الطريق الأسفلتي العريض الذي يشق بطن الصحراء. غمس السائق إصبعه في الهواء وقال له: هذه أنوار الكتيبة. وانبعثت العربة في الليل وتركته وحيدًا. نزل إلى المدق الضيق المتعرج قليلًا، ودس يده في جيبه ليتأكد من وجود «خطاب الاستدعاء» شاردًا في السنوات الثلاث التي قضاها جنديًا في سلاح الإشارة. وضع وجهه في مقابل المصابيح الخافتة التي تثقب العتمة الجاثمة على الرمل، وسار في اتجاهها. وجرت الساعات تحت قدميه الساعيتين إلى الأمام بلا كلل، حتى طلع عليه نور الشمس المبهر، فضاع منه الدليل. مهمة دائمة حين نزلت القاهرة في ميعة الصبا للالتحاق بالجامعة رأيته للمرة الأولى. رجل في أواسط العمر يقف على جانب ميدان «طلعت حرب» وفي يده دفتر باسم «جمعية خيرية» يجمع تبرعات لبناء مسجد. تخرجت وأنهيت فترة تجنيدي وأرهقتني المشاوير حتى وجدت عملا، وانتقلت من غرفة مؤجرة إلى شقة صغيرة ومنها إلى فسيحة، وتزوجت وأنجبت وبات ابني الأكبر على باب الجامعة وزحف الشيب إلى الفودين والناصية وعرفت عيادات الأطباء. بالأمس كنت أقطع الميدان فوجدته في مكانه القديم، يمسك الدفتر نفسه، وقد احدودب ظهره، وصارت لحيته شهباء، وتحشرج صوته، لكنه كان كافيًا ليُسمع المارة شيئًا عن مهمته الدائمة. تغيير هدم الرجل بيت الطوف، وتهاوت تحت قدميه قطع الطين اليابسة الملفوفة بالقش، وأقام مكانها حوائط الطوب اللبن. بعد سنوات هدمها وصارت الحوائط من الحجر، وقبل أن تتآكل الأحجار أو تكل خلعها وانتصبت أعمدة الحديد والأسمنت ووقف وسطها الطوب الأحمر في خيلاء. مع تبدل الحوائط بدل الرجل أرديته، جلباب مرقوع، آخر من الجوخ المعتبر، وبعده بذلة من الصوف المفتخر ورابطة عنق لامعة تزين صدره. في كل هذه الأحوال ظل الجيران يشكون من قمامة يلقيها أمام دورهم، وبذاءة لسانه التي تجرح آذان أولادهم، وشخيره الذي يخرق النوافذ ويتسرب إلى النائمين، وزهومة طعامه التي تبعث من يشم رائحتها على التقيؤ. كرة أطلق الحكم صافرة البداية، لكن اللصوص الذين تسللوا بين المتفرجين سرقوا كل الكرات المتواجدة في الملعب. كانت المبارة حاسمة ولا بد من أن تًلعب، فأغمض اللاعبون عيونهم وراحوا يجرون في اتجاهين متعارضين. سقط بعضهم متألمًا، وبعضهم نادي متلهفًا كي تصل إليه الكرة فيودعها المرمى الخالي، وآخرون رفعوا علامة النصر بالفوز المبين، بينما المدرجات تضج بتشجيع يرج الأرض، ويُجري السحاب.